الذكاء الروحي (المفهوم ، النمو ، الارتقاء الروحي) البروفيسور : فرانسيس فوجن

بعد المحاولات والجهود الطويلة التي بذلها علماء النفس في تعريف الذكاء بوصف قدرة عقلية عامة تتعامل مع التعقيد المعرفي والفهم وتطبيق المعرفة واستعمال التفكير بشكل ماهر فأن بعضهم وجد ان الذكاء يتضمن قدرات وانواع عديدة ، إذ بين العلماء ومنهم عالم النفس هوارد جاردنر Howard Gardner عام 1993 ان هناك انواع متعددة من الذكاءات وليس نوع واحد فقط ، مما ساعد هذا العمل العديد من الناس على فهم انفسهم ، وتطبيقه في العديد من المدارس في الولايات المتحدة الامريكية . ويفترض جاردنر ان الانواع المختلفة من الذكاء تتطور بشكل نسبي وبصورة مستقلة عن بعضها البعض لدى الافراد ، وان براعة الفرد في اداء احد انواع الذكاء لا يعني نجاح الفرد في الذكاءات الاخرى ، إذ على سبيل المثال ان درجة المهارة اللغوية لدى الفرد في نطق الكلمات يمكن ان تكون مختلفة عن درجته في مهارة الرياضيات للاعداد المنطقية .
وتوصل جاردنر في البداية الى خمسة انواع من الذكاء، ومن ثم اضاف اليها انواع اخرى ، وتتمثل هذه الانواع بالذكاء الروحي spatial intelligence الذي هو امكانية الفرد على ادراك العلاقات الروحية ، والذكاء الجسدي kinesthetic Intelligence الذي يمكن الفرد من استعمال جسده بمهارة متميزة مثل الرقص والالعاب الرياضية ، كذلك توصل جاردنر الى الذكاء الموسيقي musical intelligence الذي يعتبر ضروريا في اتقان الانواع المختلفة من الموسيقى ، والذكاء الشخصي intrapersonal intelligence الذي يدل على وعي الفرد بافكاره وانفعالاته ، والذكاء البينشخصي interpersonal intelligence الذي يمكننا من فهم الاخرين واقامة العلاقات الاجتماعية معهم والتعاطف مع مشاعرهم ورغباتهم .
ونال مفهوم الذكاء الروحي بوصفه احد انواع الذكاءات المتعددة قدرا كبيرا من الاهمية بين علماء النفس ، إذ حاولوا التعرف عليه وكشف خصائصه وربطه بابحاث الدماغ والصحة النفسية ، ومعرفة ما مدى تأثيره على الشخصية ، والمؤشرات السلوكية للمنافع البعيدة المدى ، والحساسية الروحية والانفعالية .
فعلى سبيل المثال هناك بعض الشواهد حول علاقة الذكاء الروحي بالدماغ ، إذ يقول رجل الدين الصوفي عمانؤيل سوادنبيرغ (مؤسس كنيسة سوادنبيرغ في القرن الثامن عشر) الذي كان يتمتع بقدرة على التنبؤ بالمستقبل : بعدما تعرضت للجلطة الدماغية التي ادت الى اصابتي بالشلل النصفي ، فقدت قدرتي على الاستبصار وكشف المستقبل visionary capacity (Wulff, 1991) ، كذلك أيدت الدراسات التجريبية الحديثة العلاقة الايجابية بين بعض المعتقدات والممارسات الروحية وشعور الفرد بالصحة النفسية والجسمية (Richards, 1999) وكشفت الدراسات عن وجود علاقة ايجابية بين الذكاء الروحي وتماثل الفرد للشفاء (Dossey, 1993) فضلا عن ذلك تحرى الباحثون عن تأثير المعتقدات الروحية على عمليات الاحتضار dying process (Gallup, 1997) ومدى مساهمة التطبيقات العملية الروحية (للطب والطب البديل) بالشفاء من الامراض (Boyle, 1999) .

– تعريف الذكاء الروحي :
اعتمادا على خبرتي لسنوات عديدة من العمل في ايجاد العلاقة بين علم النفس والجانب الروحي ، اود ان اعرض بعض المنظورات التي اعتقد انها يجب ان تكون ضمن تعريف الذكاء الروحي spiritual intelligence ، إذ يرتبط هذا الذكاء بالحياة الداخلية للعقل والروح والوجود في العالم ، والذي يشير الى امكانية الفهم العميق للأسئلة الوجودية (كيف خلق الكون؟ ، ومن أين جاءت الكائنات الحية الاخرى؟، وكيف خلق الانسان؟ ..الخ) ، والوعي الروحي بما هو موجود من حياة كالشعور بالنباتات والحيوانات والوجود البشري ، والوعي العميق بالقضايا الفكرية والمادية والحياتية ووجود الاشياء كجسم وعقل وروح ، لذا فان الذكاء الروحي اكثر من مجرد قدرة عقلية ، ويظهر كاتصال شخصي بين ذات الفرد والناس والحياة والكون ، وبذلك يذهب الذكاء الروحي الى ما بعد التطور النفسي التقليدي ووعي الفرد بذاته ، لأن الذكاء الروحي يدل على الوعي بعلاقتنا مع بعضنا البعض وسمونا فوق هذه العلاقات ، ووعينا بما هو موجود على الارض ، وجميع الكائنات ، وبذلك فاني كمختص في العلاج النفسي اجد ان الذكاء الروحي يفتح القلب وينير العقل ويلهم الروح ، ويصل النفس الانسانية بما هو موجود حولها ؛ ويمكن ان يتطور الذكاء الروحي من خلال الممارسة ليساعد الفرد على تمييز الواقع عن الوهم ، ويطور من قدرة الافراد على الحب والمساعدة واكتساب الحكمة بغض النظر عن الثقافة التي ينشأ فيها الفرد.
وبما ان الذكاء الروحي يرتبط بالذكاء الانفعالي فان الممارسة الروحية spiritual practice تتضمن تطوير الحساسية الانفعالية لدى الافراد وعلاقاتهم بالاخرين والعكس صحيح ، إذ ان توجيه الانتباه الى الافكار والمشاعر والتعاطف (الذكاء الانفعالي) يزيد من وعينا بحياتنا الروحية ، وبهذا يساعد الذكاء الروحي على اكتشاف المنابع الخفية للحب والبهجة وسط ضغوط واضطراب الحياة اليومية.
– النضج الروحي :
يمكن ان يتطور الذكاء الروحي لدى أي فرد من خلال الممارسات المتنوعة والتدريب على الانتباه للذات وتحويل الانفعالات السلبية الى ايجابية وغرس السلوك الاخلاقي في الذات ، وعلى الرغم من ان الذكاء الروحي يرتبط بالنمو الاخلاقي والمعرفي والانفعالي إلا انه لا يظهر بشكل مراحل تطورية متسلسلة ومنظمة خلال مراحل حياة الانسان ، إذ ان الذكاء الروحي يمكن ان يتطور بنسب متفاوتة لدى الافراد كالذكاءات الاخرى (مثل تفوق الفرد في الذكاء اللغوي اكثر من الذكاء الفني) ، وقد يتوقف نمو الذكاء الروحي لدى أي فرد عندما يواجه صعوبات تعرقل تطوره الاخلاقي والانفعالي ، إذ ان هذان النوعان من النمو (الخلقي والانفعالي) يرتبطان بمؤشرات النضج الروحي التي تدل على حسن التصرف والحكمة والوقار والشفقة عند التعامل مع الاخرين بغض النظر عن جنسهم او عمرهم او مذهبهم الديني او اصلهم العرقي ، فضلا عن احترام جميع اشكال الحياة ، وبهذا نجد ان النضج الروحي عبارة عن الاحساس الشخصي بالبصيرة وفهم القضايا الروحية اعتمادا على التمييز بين الاوهام والمسائل الروحية الحقيقية وتقبل مفاهيم الحرية والفناء الوجودي existential freedom and mortality ، ولا سيما ان النضج الروحي يدل على عمق وسعة الرؤية الداخلية التي تشمل على مجموعة واسعة من وجهات النظر والانواع المتعددة من المعرفة ، فهو عبارة عن ربط الحياة الداخلية للعقل والروح مع الحياة الخارجية التي تتضمن العمل وخدمة العالم.
وبما ان النضج الروحي يتطلب من الافراد ان يكونوا واعين بذاتهم ، فأنهم عندما يوجهون انتباههم نحو الداخل (داخل الذات) يبدؤون بمحاولة الاهتمام بأحاسيسهم ومشاعرهم وافكارهم الشخصية ، ويكونون منشغلين تماما بقضاياهم الشخصية ، وغير قادرين على اسكات العقل حتى لمدة دقيقة ، إذ يبدو ان لعقل الفرد عقل خاص به ايضا، الذي يكون منشغلا بصورة مستمرة في مراجعة الماضي او تخيل الخطط للمستقبل ، وبهذا فان سعي الفرد الى تركيز انتباهه على الداخل سيؤدي الى ان تكون لديه خيارات واعية ، وسيستطيع القيام بعمليات توقف العادات القديمة للتفكير والانماط السلوكية غير المرغوبة بها ، وسيتمتع بدرجة كاملة من الانتباه والفهم ، وستكون لديه قدرة على شفاء الجروح القديمة او شفاء روحه من الألم ، إذ عندما الفرد يمارس تأملات عميقة من خلال الاندفاع نحو الكمال والرغبة في الفهم فان الروح ستفتح طريقا يؤدي بشكل تدريجي الى النضج الروحي ، وعندما يصل الفرد الى هذا المستوى من النضج فانه سيتسم بالحب والرحمة والامانة والتسامح وانفتاح العقل والسلام الداخلي والاصالة في مواجهة تحديات الحياة الوجودية.

– الطريق الروحي :
ان الطريق الروحي عبارة عن استعارة لتطور النوعيات الروحية التي يتضمنها الذكاء الروحي ، ويتمثل هذا الطريق بالطاعة والالتزام والسلامة الذي يوصل الافراد من عبودية اللاشعور الى الحرية الوجودية ، ومن الخوف الى التمسك بالحب والرحمة ، ومن التجاهل والارباك الى الحكمة والفهم (Vaughan, 1995) . ويمكن وصف هدف هذا الطريق من خلال عدة مفاهيم مثل التنوير enlightenment ، واليقظة awakening ، والسلام الداخلي inner peace ، والادراك الذاتي self-realization ، ومهما كان الهدف فان هذه العملية تتضمن تحويل وتطوير وعي الفرد الروحي من خلال الممارسات الروحية (كالصلاة والتعبد واليوغا والصبر..الخ) ، إذ يمكن للممارسة الروحية ان تعمق من امكانيتنا على الحب والرحمة والحكمة والسمو ومساعدة الناس ، وبذلك يزودنا الذكاء الروحي بالإمكانية على إدراك قيم هذه النوعيات في الذات والاخرين ، والارتقاء الى مستويات عليا من الوعي والسمو الذاتي او النزول الى الطبيعة المشتركة والوعي الجسدي (Wilber, 1995)
وبهذا الصدد يجب القول انه لا يوجد اتفاق بين الباحثين والروحانيين حول الطريق الروحي الذي يوصل الفرد الى الحرية والحكمة ، فنجد ان الشري أوروبندو Sri Aurobindo (فيلسوف هندي معاصر له كتاب عن اليوغا( يرى ان الطريق الروحي يوصلنا الى بلوغ الحرية والسمو من خلال الممارسات الروحية ولكن بشرط ان يكون الارتقاء الى المقدس الخطوة الاولى لهذا الطريق ، لأنه المسار الى الوعي الجديد وارتقاء العالم ، في حين يختلف هذا الطريق عن رحلة الروح في المسيحية ، ومراحل الذات لدى الصوفيين Sufism ، في حين يرى عالم النفس ويذر Wither ان هناك مراحل للطريق الروحي ، تتمثل بـ
-المرحلة الاولى (الفردية) : التمركز حول الذات self-centered ، يمارس الفرد طقوسه الدينية والروحية في الاوقات التي يبحث فيها عن العزاء والالم والمعاناة او يصلي من اجل الحصول على المساعدة عند مواجهة الازمات واليأس .
-المرحلة الثانية (التقليدية) : يتوسع الاهتمام من الذات الى مصلحة الجماعة مثل مشاركة الفرد لطقوسه الدينية مع العائلة او المجتمع او الجماعة الدينية المذهبية والاثنية ، وترتبط الحياة الروحية في هذا المستوى مع الجماعة كحضور الجامع والكنيسة او المعبد واحياء الطقوس والعطل الدينية مثل التعميد والزواج والجنازة كاهتمام رئيسي للحياة الدينية ، لذا فان الفرد يتبع العادات الدينية الاجتماعية .
-المرحلة الثالثة (ما بعد التقليدية) : تدعى بالمرحلة التطورية لما بعد احياء الطقوس الدينية الاجتماعية ، وفيها يمتد الطريق الروحي الى متطلبات الوعي الذاتي والالمام بالطرق المتنوعة للحقيقة الروحية المدركة ، ، وهذا الوعي يمكن ان يتكامل في مرحلة الرشد ليصل الى النضج الروحي الذي يتضمن التعاطف والشعور بالقضايا والقوى الغيبية والالمام بالخرائط الرمزية المتنوعة للشعور (Wither, 1997)
وبهذا الصدد تختلف طرائق الناس الروحية في جميع الثقافات ، وذلك وفقا لما يعتنقونه من ممارسات روحية ، إذ نجد ان بعض الافراد يتمسكون بتعاليم روحية معينة في حين يتبنى البعض الاخر تعاليم روحية متنوعة لأكثر من تقليد ديني واحد (على سبيل المثال نجد ان الكثير من المسيحين يتبعون التقاليد الروحية والدينية البوذية) (Wuthnow, 1998) وقد تتضمن الممارسات طقوس معقدة او بسيطة مثل تهدئة الذات او الاستماع الى الصوت الموجود في داخل الجسم او الاستماع الى العقل عند توجيه التفكير والتأمل بالذات والاصغاء الى الاشياء والقضايا الروحية (Johnson, 1998) وبهذا يمكن القول ان الطريق الروحي هو ذلك المسار الذي يؤدي الى الحب والحرية والرفاهية بدءا من الشخص ككل الى العائلة والكوكب والشبكة الواسعة للحياة .

– تطور الايمان والتجربة الروحية :
تعد نظرية جيمس فولر James Fowler احدى النظريات التطورية الرائدة التي وصفت مراحل تطور الايمان faith development لدى الافراد ، ويرى فولر ان الايمان يعطي حياتنا التماسك والتوجيه النفسي ، ويجعلنا قادرين على مواجه الصعوبات الحتمية في حياتنا ، واشار فولر الى ان هناك بعض العوامل التي تؤثر على تطور الايمان مثل النضج البيولوجي والنمو المعرفي والانفعالي والتأثيرات الثقافية التي يجب ان نأخذها بعين الاعتبار ، ويؤكد فولر ان تطور الايمان يظهر بصورة تدريجية عبر ستة مراحل تمتد من الطفولة وحتى النضج الروحي ، وهذه المراحل هي :
1.الايمان البدائي او غير المتمايز : تمتد هذه المرحلة من الولادة ولغاية السنة الثانية من العمر ، وتعتمد على الخبرات الاولى من الحياة التي يتلقاها الطفل من البيئة الاجتماعية (كالدفء والامان والسلامة مقابل الاذى والاهمال وسوء الرعاية) فاذا كانت التربية التي يتلقاها الطفل تتسم بالدفء والامان والسلامة فانه سيطور الاحساس بالثقة والامان بالكون وكل ما هو إلهي ، في حين اذا عاش الطفل في بيئة ذات تجارب سلبية فانه سيطور الاحساس بعدم الثقة بالكون وكل ما هو إلهي.
2.الايمان الحسي الاسقاطي : تمتد من ثلاثة الى سبعة سنوات ، تظهر هذه المرحلة بعد انتقال الطفل الى مرحلة فكرية جديدة يندمج فيها التفكير مع اللغة ، الذي يساعد الطفل على تعلم الدين بشكل اساسي من خلال الافكار الصور والقصص والتواصل مع الوالدين والاقرباء ..الخ ، لذا يكون الدين في هذه المرحلة عبارة عن مجموعة من الانطباعات التي يكتسبها الطفل من القائمين برعايته ، ويشير فولر بما ان الطفل في هذه المرحلة غير قادر على تمييز الخيال عن الحقيقة فان شرح الافكار الدينية اليه بصورة سلبية (مثل صورة الله والشيطان والجنة والنار) يمكن ان يسبب له أذى كبير ، وقد تنشأ شخصيته تسلطية ومتصلبة او هشة
3.الايمان التقليدي التركيبي : تمتد من عمر 12 سنة الى مرحلة الرشد ( مرحلة المراهقة) ، يصبح الدين هنا ذو علاقة بتشكيل هوية المراهق الاجتماعية من خلال الوعي بالمفاهيم الدينية وتقييمه لها، إذ ان المراهق في هذه المرحلة يتوجه نحو اكتشاف جميع المفاهيم والقيم الدينية التي تؤكد عليها الدوائر الاجتماعية (العائلة ، الاصدقاء ، المعلمين ، رجال الدين..الخ) ومن ثم اعادة تركيبها (تصنيعها) من جديد لتظهر على هيئة نظام ديني يؤمن به ، مما يؤدي ذلك الى شعور المراهق بهوية نفسية خاصة به.
4. الايمان الفردي المتأمل : تظهر عادة في منتصف العشرين وتستمر حتى نهاية الثلاثين من العمر ، وهي مرحلة مشوبة بالذنب والصراع ، لأن الفرد يتحمل فيها المسؤولية الشخصية لمعتقداته ومشاعره الدينية ، ويتحررون من تأثير السلطات الدينية ، إذ يتحول المصدر الاساسي للسلطة الدينية من الخارج (العائلة والاصدقاء والكنيسة) الى الداخل (الذات) ، وبهذا يكون الافراد مستقلين ذاتيا ومنفصلين عن تأثيرات الجماعة ، وبما ان الافراد ينفصلون عن الجماعة فانهم سيتحملون مسؤولية تأملاتهم ومراجعتهم للكثير من المعتقدات الدينية التي كانوا يؤمنون بها في المرحلة السابقة ، ويكونون منفتحين على الايمان بالمعتقدات الدينية المعقدة ، ومتحررين من بعض الاعتقادات الدينية السابقة ، وهذا ما يجعلهم يعانون من الصراع مع ذاتهم بشأن بعض المعتقدات (السابقة والآنية) التي كانت الجماعة تؤكد عليها وتحترمها .
5. الايمان الموحد: تمتد هذه المرحلة من منتصف العمر وحتى أزمة نهاية الحياة ، والتي يدرك في ضوئها الافراد افكارهم واندفاعاتهم ومشاعرهم والذكريات الدينية التي قمعوها في وقت سابق ، ويبدؤون بادراك التأثيرات الوالدية والاجتماعية والاثنية الدينية التي أثرت على تطورهم الديني ونبذها مثل حرمة بعض الافعال او كراهية بعض الجماعات الدينية وادراك التناقض لبعض القيم والطقوس الدينية ، لذا يتسم الافراد في هذه المرحلة بعدم التأثر بالموانع العرقية والاثنية التي تمنعهم من الاختلاط مع الجماعات الدينية الاخرى ، والشعور بمعنى الحياة ، واحترام الرموز والطقوس الدينية الخاص بجماعتهم والجماعات الاخرى ، وعدم التمسك بجميع القواعد الدينية بشكل مطلق ، وتجاوز الافكار الخرافية ، ونبذ التعصب الديني ، والصور المجحفة .
6. الايمان العالمي : من النادر جدا ان ينتقل بعض الافراد من المرحلة الخامسة الى المرحلة السادسة ، التي تدعى بالتنوير enlightenment ، وسميت بالتنوير لأن الفرد يسمو فوق حاجاته الانسانية ، ويصبح فيها نظامه الديني معقدا ويستوعب جميع القيم الدينية والعالمية ، وهذا ما يجعله يصل الى الحقيقة الدينية والروحية التي يسعى لها كل فرد ، ومن سمات الافراد في هذه المرحلة الاتسام بالزعامة الروحية ، والانفتاح بالكامل على الديانات والثقافات الاخرى ، والفهم العميق للاساطير الروحية التي جرى تحريفها وتخريبها من قبل المؤسسات الدينية ، والاتسام بالمودة والرفقة والنصح ، لذا يرى الناس أن الافراد الذين يصلون الى هذه المرحلة (بشر خارقين) في معرفتهم الروحية ، مثل اليسوع، وألبرت آينشتاين، وغاندي، والأم تيريزا، ومارتن لوثر كينغ .
– الذكاء الروحي والصحة النفسية
يرتبط الذكاء الروحي بشكل عام مع الصحة النفسية رغم ان بعض الاشكال الروحية قد تسبب المرض (Deikman, 1990) إذ عندما تعزز وترسخ المعتقدات الروحية عمليات الانكار والاسقاط وتساهم في الخوف والصراع لدى الافراد فانها تؤدي الى اصابتهم بالمشكلات والاضطرابات النفسية ، على سبيل المثال قد يفرض زعيم طائفة روحية سيطرته على الناس من خلال استغلال مشاعر الخوف والشعور بالذنب مما يؤدي الى اتسامهم ببعض الخصائص المرضية ، وقد يحتاجون سنوات طويلة حتى يستطيعون التعافي منها .
وعلى الرغم من ان الدين التقليدي قد يزود الفرد بمشاعر بالامن والدعم الاجتماعي إلا ان الطريق الروحي في داخل الفرد له تأثيرا داخليا مباشرا بدرجة كبيرة على سلوكه وافكاره ، وقد يظهر هذا التأثير الروحي ايضا لدى الافراد الذين خاب املهم وثقتهم بدينهم الاساسي ، لذا فان تطور الذكاء الروحي لدى الافراد بغض النظر عن نوع الديانة التي ينتمون اليها توسع من دائرة التعاطف مع جميع الناس ، وتجعلهم يشعرون بالرفاهية والانسجام مع العالم والكون بشكل كامل لأن رؤى الافراد وارتباطاتهم تمتد لتصبح رؤى انسانية وروحية وفكرية متعددة.
وبذلك نجد ان تطور الذكاء الروحي يتفوق ويسمو على النمو الشخصي ، إذ ان تطور هذا النوع من الذكاء يمتد ليشمل الانواع المختلفة للنمو النفسي والصحي للفرد ، ويجعله يتسم بالوعي الذاتي والتمتع بالصحة ويطور حساسية التعاطف تجاه جميع البشر ، وهذا ما اشارت اليه الدراسات التي وجدت ان الذكاء الروحي يرتبط مع بعض الخصائص الشخصية بدرجة ايجابية مثل الصدق والتواضع والقيام بالاعمال الخيرية واحترام الاختلافات الاثنية والاستعداد لخدمة الاخرين ، كذلك يرتبط تطور الذكاء الروحي بقلة استعمال حيل الدفاع النفسي وتدني الشعور بالكراهية تجاه الاخرين ، إذ يعد هذا الذكاء مؤشرا هاما على الاتسام بالشفقة والكرم والصحة النفسية الجيدة.
– البحث في الذكاء الروحي :
فيما يلي بعض الامثلة حول كيفية ارتباط الذكاء الروحي ببعض النتائج والميادين العلمية ، وكالاتي :
أ. البحث العلمي : هناك توجه كبير للميادين العلمية نحو دراسة الذكاء الروحي ، كالطب وعلم النفس وعلم الموت thanatology (دراسة الموت والاحتضار وما يصاحبه من تأثيرات نفسية واجتماعية وثقافية) ، اذ اهتمت هذه المجالات بإعادة فحص الفرضيات والمعتقدات الخاصة حول حقيقة المنظورات الروحانية ومدى صدق تأثيراتها وفاعليتها على الانسان .
ب. الاختيارات الروحية : ظهرت تشكيلة واسعة من التعاليم الروحية حول كيفية تطوير الذكاء الروحي لدى الافراد ، وهذه التعاليم متوفرة الان في الكتب العلمية والتسويقية ، ولكن على الفرد ان يميز بين ما هو قيم وزائف من هذه الكتب ، وعلى اية حال فان الذكاء الروحي يساعد الفرد على ادراك حقيقة الاشياء.
ج.العلاقات الاجتماعية : بما ان الذكاء الروحي يزيد من عمق مشاعر الحب الاساسية بين الافراد فانه يساهم في تعزيز العلاقات الصحية بين افراد العائلة والاصدقاء والزملاء في الدراسة والعمل ، ويساعد الناس على تقدير معلميهم وقادتهم ومرشديهم ، إذ من خلال الذكاء الروحي يدمج العقل مع القلب ، ويؤدي الى تعرف الناس على قوة التسامح ، ويحسن قدرتهم على الاخذ والعطاء لمشاعر الحب ، كذلك تظهر فائدة الذكاء الروحي في العلاقات الحميمية والزوجية ، إذ يساعدنا هذا الذكاء على التعلم من اخطائنا واتخاذ القرارات والخيارات الزوجية والعاطفية الحكيمة.
د. الأبوة والأمومة: يمكن ان تكون للتجارب الروحية على الطفولة المبكرة تأثيرا نفسيا طويل الأمد (هوفمان، 1992) إذ ان تعليم الطفل العناصر الأساسية للذكاء الروحي يساعده على استكشاف العالم الداخلي والخيال ويطور من قدراته المعرفية ، على سبيل ان فهم معاني الرموز الروحية يمكن أن يساعد كل من البالغين والأطفال على تمثيل الاستعارات واستيعاب الامثلة والحكم والقصص.
هـ.الاختلاء : تشير الدراسات النفسية الى ان الخلوة تساعد الافراد على اكتشاف القيم والكثير من الحقائق والاشياء ، إذ تظهر فائدة الاختلاء بالذات على التوافق النفسي والتأقلم مع الحقائق الوجودية للوحدة والحرية والموت .
و. مفهوم الذات : يظهر من خلال البحث في معتقدات الفرد الشخصية حول ما هو روحي ، على سبيل المثال تركز التعاليم الهندية للفيلسوف الهندي ريمينا مهراجي على سؤال واحد (من أنا ؟) ، ويرى ان الاجابة على هذا السؤال يؤدي الى ادراك الذات ويحقق السلام والسعادة ، فضلا عن ذلك تشجع العديد من التعاليم الروحية على ادراك الفرد لذاته وتمييز حاجاته المتمركزة حول الذات التي تمنح الروح الشعور بالرضا والهناء .

الذكاء الروحي (المفهوم ، النمو ، الارتقاء الروحي) البروفيسور : فرانسيس فوجن مصدر المقالة

لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :

الذكاء الروحي (المفهوم ، النمو ، الارتقاء الروحي) البروفيسور : فرانسيس فوجن