م . م . مشرق ضياء موسى
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الانسانية / قسم التاريخ
آثار الجوانب السياسية على النشاط الصناعي في بلاد ما وراء النهر في مدة الحكم الأمارة السامانية (261-389ه/874-998م) :
لقد ازدهرت الصناعة في بلاد ماوراء النهر وكان لهذا الازدهار أسباب وعوامل متعدّدة منها,
وجود الثروات الطبيعية كالمعادن, ووجود المنتجات الزراعية والحيوانية , وكذلك وجود رؤوس الأموال التي تعد عنصراً مهماً من عناصر الانتاج, فضلاً عن وتوفر اليد العاملة الماهرة, توفر النشاط التجاري الذي يساعد على تصريف فائض المنتجات وبيعها في الأسواق الداخلية والخارجية.
ومن العوامل التي ساعدتْ على الانتعاش الصناعي والتجاري على حدٍ سواء في بلاد ماوراء النهر, هو انخفاض حجم الضرائب والأتاوات لأن السلطة الحاكمة لم تفرض ضرائب مرهقة على أصحاب المهن والحرف , وهذا أدّى بطبيعة الحال إلى زيادة الانتاج وكثرة العائدات المالية للدولة حتى بلغ في إحدى السنوات خمسة وأربعين مليون درهماً في أيام الدولة السامانية , لاسيّما وإن خراج بلاد ماوراء النهر قد فصل في هذه المرحلة عن ميزانية الخلافة العباسية, وهذا يظهر بصورة واضحة في سنة 306ه/918م من خلو قائمة وزير الخليفة المقتدر علي بن عيسى من أي إشارة إلى حصول الخلافة العباسية على واردات منظمة من خراسان وبلاد ماوراء النهر, واكتفى حكام بلاد ماوراء النهر بإرسال الهدايا إلى الخلافة العباسية من دون أن يكون هناك خراجاً أو جزية منتظمة, فازدهرت الحياة الاقتصادية في بلاد ماوراء النهر في ظل الخلافة العباسية وتحت الحكم الساماني فأزداد الرخاء الاقتصادي والرفاهية للسكان, حتى قيل بدولة آل سامان ورخائها : ” لو ان شجرة خرجت,على,آل سامان ليبست … “ , وأخذ السكان يسعون لامتلاك الآلات والأدوات التي يحتاجونها في صناعتهم ونتيجة ذلك ازداد أصحاب الحرف والمهن خاصة في المدن الكبرى.
والذي يلحظ أن هناك تخصص في هذه المهن والصناعات في أغلب الأمصار الإسلامية فقد ذكر فيما يخص ذلك : ” … لضرورة المعاش فيوجد,في كل مصر كالخياط والحداد,والنجار وأمثالها .. الزجاج والصائغ والدهان,والطباخ والصفار .. وأمثال هذه وهي متفاوتة,. وبقدر ما تزيد الحضارة وتستدعي,أحوال الترف … “ .
ولابد من الإشارة ههنا إلى التأثير المتبادل بين المناطق والبلدان المجاورة على المجال الصناعي والمهن , إذ كان هناك تأثير للصناعات الصينية, فضلاً على الصناعات الموجودة في خراسان على الصناعة في بلاد ماوراء النهر, ومن الجدير بالذكر أن هذا التأثير كان قديماً فمنذ أن فتح العرب المسلمين بلاد ماوراء النهر فإنهم شاهدوا المصنوعات الصينية بكثرة في الأسواق والمنازل, وعندما دخل أبو مسلم الخراساني بلاد ماوراء النهر وجد أصحابه السلع الصينية الكثيرة والثمينة التي تم الاستيلاء عليها وإرسالها إليه عندما كان مقيماً في سمرقند.
لقد كان لوجود الثروات الطبيعية والمعدنية في بلاد ماوراء النهر الأثر الكبير الذي جعلها تتخصص في صناعة السلع المهمة التي يحتاجها العالم الإسلامي, فضلاً على وجود نشاط تجاري كبير ساعد على تصريف المنتجات الصناعية التي تنتج في الداخل .
ويجب ألّا ننسى أن الارتباط السياسي والديني لبلاد ماوراء النهر بالعالم الإسلامي لاسيّما بعاصمة الخلافة العباسية , جعل من النشاط التجاري أكثر حرية مما انعكس إيجاباً على الجانب الصناعي , فأزداد الانتاج الصناعي وظهرت الكثير من الصناعات التي كانت منتجاتها تطلب من عاصمة الخلافة العباسية ومن البلاد الإسلامية الأخرى, إذ تنعمت بلاد ماوراء النهر أيام حكم السامانيين بالهدوء والطمأنينة مما كان له أثره في أزدهار الصلات التجارية مع الخلافة العباسية التي بدورها كانت تجلب السلع المصنعة إلى حاضرة الخلافة, وهذا يعد دليلاً واضحاً على مدى تأثير العامل السياسي على النشاط التجاري والصناعي على حدٍ سواء .
وأهم تلك الصناعات التي ظهرت في بلاد ماوراء النهر هي (الصناعات الأستخراجية), حيث تم استخراج بعض المعادن المتوافرة بصورة خامات طبيعية , ومن تلك المعادن التي تم استخراجها هي الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها وقد استخدمت هذه المعادن بصناعات متعددة .
وأهم تلك المعادن التي كانت تستخرج من بلاد ماوراء النهر : هي الذهب الذي كان يستخرج من المناطق الجبلية فكان يوجد في اشروسنة وفرغانة, وكذلك يوجد في إقليم الصغد لاسيّما في سمرقند وبخارى , إذ كان الذهب فيها كالسلع والعروض لكثرته أيام السامانيين .
أما معدن الفضة فكان يستخرج من جبال مدينة (البتم) ويستخرج في سمرقند, وفي نواحي اشروسنة وفرغانة, أمّا النحاس فكان يكثر في المناطق الجبلية من بلاد ماوراء النهر الذي يتميز بلونه الأصفر المشابه للذهب حيث يوجد في فرغانة ونواحيها, وفي إقليم الصغد وخاصة مدينة سمرقند, أما الحديد فإنه يتوافر بكثرة في المناطق الجبلية من أقاليم بلاد ماوراء النهر, حيث يكثر في سفوح جبال,البتم وفي بعض,نواحي فرغانة, كذلك يوجد في إقليم الصغد لاسيما في بخارى والتي تعد مركزاً لصناعة الحديد في,بلاد ماوراء النهر .
أما أهم الصناعات في بلاد ماوراء النهر فهي : صناعة المنسوجات بأنواعها ومنها القطنية والصوفية والحريرية فضلاً على الصناعات الجلدية , فالمنسوجات القطنية اشتهرت بها مدينة بخارى, ذلك بأن معظم رساتيقها تزرع محصول القطن زيادة على وجود اليد العاملة الماهرة في هذه المدينة , وقد ذكر عن كثرة الانتاج وتصدير الفائض : ” … واما الملبوس ففيها,من ثياب القطن ما يفضل,عنهم حتى ينقل عنهم إلى الآفاق …” .
كذلك اشتهرت سمرقند بصناعاتها والتي تعد مركزاً مهماً لصناعة المنسوجات القطنية في بلاد ماوراء النهر, إذ اشتهرت فيها مدينة (ويذار) التي تصنع الثياب القطنية الويذارية نسبة إلى هذه المدينة , إذ كانت هذه الثياب من النوع الفاخر فكانت تجلب إلى العراق وتهدى إلى الخلفاء والوزراء وكان يفتخر بلبوسها .
كذلك كانت بلاد ماوراء النهر مركزاً لصناعة المنسوجات,الصوفية بأنواعها وسبب ذلك هو توفر الماشية حيث تعد خوارزم من أهم المراكز الصناعية المهمة لهذه المنتجات , فكانت تصدر منتوجاتها إلى المناطق المجاورة ولقد ذكر في ذلك : ” وخوارزم مدينة,خصبة .. ويرتفع منها من,ثياب,القطن والصوف,امتعة كثيرة تنقل إلى الآفاق … “ .
كذلك ازدهرت صناعة المنسوجات الحريرية في بلاد ماوراء النهر لتوفر البيئة الملائمة لها , منها زراعة شجرة التوت لتربية (دودة القز) الذي تعد الغذاء الرئيس لهذه الحشرة, ويعود فضل انتقال صناعة الحرير إلى العرب المسلمين الفاتحين الذين نقلوها من بلاد ماوراء النهر إلى مناطق أخرى في العالم الإسلامي مثل حوض البحر المتوسط والاندلس.
وتعد بخارى وسمرقند من المراكز المهمة لصناعة المنسوجات الحريرية في بلاد ماوراء النهر الذي يصدر منه إلى بلاد الترك, ومن هذه المنسوجات والثياب ما يرسل إلى دار الخلافة في العراق والجدير بالذكر أن أهل بخارى كانوا يقدمون الحرير للعرب الفاتحين بوصفه جزءاً من الهدايا لطلب الصلح معهم .
كذلك اشتهرت بلاد ماوراء النهر بالصناعات الجلدية حيث توزعت مراكز دباغة الجلود وصناعتها في عدد من المدن , فكان هناك تخصص في صناعة المنتوجات الجلدية فمدينة بخارى مثلاً كان تصنّع فيها جلود الخراف والحملان وكانت تجارتها رائجة , إذ يصنع من جلود الضان حزم الخيل , أما الشاش فقد اشتهرت بصناعة سروج الخيل التي كانت تصنع من الجلود التي تجلب من الترك وتدبغ وتصنّع في الشاش, وفي خوارزم كانت تصنّع جلود الثعالب والسناجب التي هي أغلى أنواع الفراء .
وهكذا نجد أن بلاد ماوراء النهر فيها حرف ومهن منتجة كثيرة لأنواع متعدّدة من الصناعات ساعدها في ذلك المناخ الملائم وتوفر الموارد الطبيعية المتنوعة واليد العاملة الماهرة ورؤوس الأموال , فضلاً على النشاط التجاري الذي كان مع البلاد المجاورة ناهيك عن الوضع السياسي المستقر في العهد الإسلامي, لاسيمّا في مدة الحكم الساماني .
وهذا ما جعل أقاليم بلاد ماوراء النهر ترتبط بعلاقات تجارية مع مناطق أخرى خاصة مع دار الخلافة في بغداد , ومن الملاحظ إن أغلب المنتجات الصناعية كانت تفيض عن الحاجة المحلية فتباع خارج بلاد ماوراء النهر وكثير منها ما يباع في حاضرة الخلافة العباسية خاصة السلع الكمالية والترفية , فضلاً على وصول تلك المنتجات الصناعية الى مناطق أخرى من العالم الإسلامي حيث ذكر الاصطخري في ذلك ” … ما يفضل عنهم حتى,ينقل,عنهم إلى الافاق … “, والذي يبدو من هذا النص أن هناك الكثير من السلع التي كانت تصنع في بلاد ماوراء النهر والتي تصدّر إلى مناطق مختلفة من العام الإسلامي, لاسيّما إلى حاضرة الخلافة العباسية أيام الحكم الساماني .