آراء الدارسين المحدثين في الشاعر دعبل بن علي الخزاعي (246 هـ )(3)
أ.م.د. علي ذياب محيي العبادي
ومن الذين تابعوا العقاد في خطواتِهِ للحطِّ من قيمة الشاعر وتشويه صورتِهِ إيليا حاوي في كتابه ( فن الهجاء وتطوره عند العرب ) ؛ إذ قال فيه : (( وقد كان في صباه الأول ميالاً إلى التخنُّث، يغشى مواضع الريب ويلمّ بالمنكرات مع جماعة من صحبهِ الماجنين . وقد كان يصلت على الناس في الليل ، ينزع منهم ما يحملونه من متاع ومال ، وربما قتل صرّافاً ، وظل هارباً من تعقب السلطة حتى مات أهل ذلك الصيرفيّ جميعاً )) ثم يكُثر الكاتب من عيوب دعبل فيقول : (( ذلك أن دعبلاً كان ملحاحاً ، كثير الطلب ، لئيماً يكره الناس ويطيب له أن يثلبهم وينهش أعراضهم )).
وبعد صفحات قليلة نجد أن الكاتب قد تغيرَّ موقفه من دعبل بعد أن وصفه بالتخنث واللصوصية ومصاحبة الماجنين ، وكثرة الطلب واللؤم ، وكرهه جميع الناس وطيب الثلب بهم ونهش أعراضهم ، يأتي ليقول : (( والواقع أن دعبلاً بخلاف الصورة الدائمة التي ما برحنا نمثله بها ، وكان يقف في شعره الهجائي مواقف إنسانية تثير الأعجابُ في عنف الشجاعة التي تظهر فيها . فأي دافع قضى على دعبل أن يثور لمقتل الأمير العلوي ، هاجياً الرشيد بأقذع الهجاء ، متعرضاً لغضب المأمون ؟ ذلك انه وراء نقمة دعبل على الناس وعلى نفسه ، كان يومض وميضا حيا من الشعور الانساني الفائق ، فهو لا يطيق أن يشهد فواجع الظلم تمثل بمنكرها أمام عينيه ، دون ان يكون لديه الشجاعة للثورة عليها . فكم من أناس عاصروا دعبلاً وشهدوا ما شهد ولبثوا صامتين ، إما خوفاً ، وإما تملقاً ، وإما استدراراً للحظوةِ ، بينما ثار دعبل دون تقية وهو يدرك ان ثورته قد تهدر دمه . فالخليفة الذي لم يتورع عن قتل أخيه لن يتورع عن قتل شاعر بائس . إلا انه بالرغم من ذلك أقحم نفسه منتصراً لذلك الأمير المسكين الذي غدر به الخليفة)) . ثم يأخذ الكاتب بوصف محاسن دعبل التي تغيرت بين لحظة وأخرى بل بين صفحة وأخرى
هذا التغيير الذي يجعل كل باحث علمي موضوعي يراجع جميع النصوص ليرى ما فيها من عجائب وغرائب في تغيير المواقف اشتهاء ورغبة لا علمية ولا واقعية . إذ يقول الكاتب : (( وهذه الشجاعة في التصريح بالرأي لا نكاد نشهد لها شبيها في الشعر العربي ، حيث كان يكثر الخنوع والتبذل والكذب والمراوغة )) وبحسب هذه الصفات الأربع التي ذكرها الكاتب في النص السابق فأن دعبلا برئٌ مما نُسِبَ إليه من كل تلك ألتهم التي الصقها به الدارسون من دون تثبت وتحقيق.
وبعد أن وجدنا الكاتب قد غيرَّ رأيهَّ في دعبل حرصنا على تقديم ما قاله في الشاعر بعد ذلك ، إذ قال : (( وهكذا ، فان دعبلاً بالرغم من قسوتِهِ وربما إقذاعه في الهجاء ، يمثل في الشعر العربي ملمحاً من ملامح الكرامة الانسانية ، لم يكد يسمو اليه المتنبي الذي لم يتجرأ على هجاء كافور إلا بعد أن هرب من بلاطِهِ ، والذي أسرف في التذلل للأمراء والخلفاء . فأين تبجح المتنبي وادعاؤه للبطولة الملحمية الكذبة الرعناء من الموقف البطولي الانساني الذي جرأ دعبل على إعلانهِ أمام خليفة بطّاش قتل وزيره الفضل ابن سهل وقائده طاهر بن الحسين لأنه خشيّ شر ثورتهما عليه إثر موت الأمير العلوي )) .
ويرى الباحث أن الكلام السابق يتجه باتجاهين :
. أولهما : ترديد ما قاله القدماء بالحرف الواحد من دون نقد وتحليل
وثانيهما : عودة الباحث عن آرائهِ الأولى وطرح آراءً جديدةً لم تطرح حتى من موالي الشاعر وأتباعه .
وقد ناقش عبد الكريم الأشتر الترجمة التي جاء بها إيليا حاوي للشاعر قائلاً : ((وعقد إيليا حاوي في كتابه ( فن الهجاء وتطوره في الشعر العربي ) فصلاً تكلم فيه على هجاء الشاعر ودلالاته النفسية ، ولكنهِ قصَّرَ اطلاعه على ما في الاغاني ، وعممَّ أحكامه أحياناً حتى ليَعدّ كلامه ـ فيها ـ صورة أمينة لما تحفل به بعض دراساتنا العامة من تفصيلات خطأ . فإذا تجاوزنا ذلك وأغفلنا عن كلف الكاتب في بعض الأحيان بالتعبير الغريب الغامض ، خرجنا من الفصل بتفسير نفسي مهوَّش لهجاء الشاعر ، ولكنه على هذا لا يخلو من صدق التصوير وحسن التقويم في عرضهِ .
أما محمد نبيه حجاب فيقول : (( كان دعبل من مشاهير الشيعة كما يقول ياقوت ، شأنه في ذلك شأن جمهرة الموالي الفرس ، وله فيهم قصائد طوال رائعة نخص بالذكر منها ( تائيته الكبرى ) التي مدح بها علي الرضا بن موسى الكاظم بخراسان )) ثم يسترسل حجاب في وصف دعبل قائلاً : (( ويبدو أنه لم يكن مخلصاً في تشيعه الذي اعتنقه لمآرب سياسية فارسية يدلنا على ذلك ما رواه من أحاديث كثيرة افتراء على أنس بن مالك ، كما يدلنا على ذلك ايضاً ما ذكره عنه ابو العلاء ملحقاً إياه بطائفة الزنادقة في غفرانهِ )) .
ثم يقول في نهاية الترجمة : (( هذا هو دعبل الخزاعي . وهذا هو لسانه السليط الذي جردَّه على العرب وخلفائهم . وقد رأينا في هجائه المأمون كيف يتيه عليه ويشير الى قضية طاهر بن الحسين الخز اعي بالولاء أيضاً ، وحصاره بغداد ، وقتله الأمين )) .
وقد حللَّ هذه الترجمة التي قام بها محمد نبيه حجاب عبد الكريم الأشتر واضعاً يده على بعض ما أدلى به ؛ إذ يقول : (( وهذه الترجمة وهي كلها ورطة كبيرة ساقه إليها وهمَُ وقع فيه ابن خلكان إذ أخرج الشاعر من العرب ، وزاد عليه حجاب فأدخله في الفرس ! وقد كان نظر بسيط في ابن خلكان يعطفه على مطلع الترجمة كفيلاً ان يجلو الأمر. ثم لم يكفه ذلك فاخرج الشاعر من الشيعة أيضاً وعدَّ تشيعه ( لمآرب سياسية فارسية ) ! ودلَلَّ على ذلك بما ذكره من افتراء الشاعر للحديث على أنس بن مالك (ولم يقل بذلك أحد غير الكاتب ) وربما قاله أبو العلاء في رسالة الغفران ! ثم فسر بعد ذلك بعض هجائه تفسيراً يصله بهذه المقدمات للنماذج المختلفة )) .