أثرالقرآن الكريم في اللغة العربية
للقرآن الكريم فضل كبير في تطور تقنية اللّغة، فلم يكن حرص العرب على اللّغة الأصيلة ــــ لغة البدو والأعراب ــــ وتشددهم في المحافظة عليها إلا رغبة منهم في حفظ لغة القرآن من الانحلال، والانحراف، ليظل مفهوما مقروءا متدارسًا.
وإذا كانت الفلسفة معجزة اليونان، فإن علوم العربية (الصوت، والصرف، والنحو، والبلاغة …) هي معجزة العرب، والحق أن ذلك العمل العظيم الذي تمّ في عصر التدوين (مطلع القرن الثاني من الهجرة) على مستوى جمع اللّغة، وتقعيدها كان بالفعل أشبه شيء بالمعجزة. إنَّ اللغة العربية كغيرها من لغات البشر خاضعة للتغيّر والتبدل وللزوال والفناء ، وإنّ القرآن بحكم أنّه لسان الإسلام الناطق ، ومعجزته الباقية هو الذي حفظها من الضياع ؛ لأنه جاء على وجه تحدى به العرب تحدياً صارخاً ، فذلوا واستكانوا . فحرص كل مسل على ألفاظه احتفاظاً بالمعجزة ، وتعبداً بتلاوته ، ولو أنه جاء كما جاء غيره من الكتب مجرداً من الإعجاز لما كان حتماً على الناس أن يُلزموا أنفسهم تعهدها والتعرف إليها ، بل كانوا يأخذون ما فيه مما يصلحهم في معاشهم ومعادهم بعد أن ينقلوه إلى لغاتهم ، فتضطر العربية أن تقف وحدها في معترك الحياة ، فلا تزال تتطلع إلى التجديد حتى تصبح في مبدئها لغتين أو لغات متباينة أو تمشي إلى الموت وتدبّ إلى الفناء حتّى تصبح من التأريخ .
ومن المعلوم لدى اللغويّين والنحويّين أنّ ما في أيدينا الآن من مؤلفات في اللغة العربية بكل فروعها وعلومها ما هو إلا نتاج من نتاجات تأثير القرآن الكريم في العربية ، فهو الذي كان الغاية المقدّمة في جمع العربية وتدوينها ، وضبط مفرداتها ، والوقوف على معانيها، ودراسة تراكيبها ، وجملها ، وتعابيرها ، وفهم أسرار تنظيمها ، وتذوق حلاوة بلاغتها ، فالنحو العربي الذي يُعدّ أساس كل دراسة لغوية ، أو أدبية وُضِع ، ودُوِّن ، ودُرِّس ، ردّ فعلٍ على اللحن الذي هو الخطأ في استعمال اللغة ، وهذا اللحن كان ناقوس الخطر الذي دقّ في أذهان العرب ؛ لأنه يهدد قرآنهم وسيبعدهم عنه حتّى ينسوه ، لقد كان تدوين اللّغة أكثر كثيرا من مجرد تدوين، بمعنى تقييد، وتسجيل: إنّه الانتقال باللغة العربيّة من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم. إنّ جمع مفردات اللّغة، وإحصاءها، وضبط طريقة اشتقاقها وتصريفها، ووضع قواعد لتراكيبها واختراع علامات لرفع اللّبس عن كتابتها … كلّ ذلك لا يمكن أن يوصف بأقلّ من إنشاء علم جديد هو علم اللّغة العربيّة، لا بل إنشاء لغة جديدة هي اللّغة العربيّة الفصحى.
ولا يمكن للمرء إلا أن يزداد إعجابا، وتقديرا لهذا العمل العظيم حينما يأخذ بعين الاعتبار المدّة الوجيزة التي تمّ فيها انجازه والمجهودات الجبّارة التي بذلها طواعية ومن دون أجر، رجال ندبوا أنفسهم، وصرفوا من أموالهم ولسنين طويلة لانجاز هذه المهمة الشّاقة التي لم يكونوا، بالتأكيد يطلبون من ورائها أي مكسب. لقد أمّدوا الأجيال اللاحقة بلغة مضبوطة مقننة قابلة للتلقي والتعلّم، قادرة على حمل الثقافة، والعلم من سلف إلى خلف.
على أن ما هو جدير بالإعجاب هو دقّة المنهج الذي اتبع في ذلك المسح الشّامل للغة العرب، لا بل للغة قبائل عديدة لكل منها لهجتها العربيّة. لقد اتجه الخليل بن أحمد الفراهيديّ (المتوفى 170ه) بحاسته الموسيقيّة المرهفة إلى الشّعر العربيّ فاستخلص منه القوالب الخفية اللامرئيّة التي يصب فيها، واتجه بعقله الرياضيّ إلى وضع قواعد نظرية افتراضيّة لا تعدم أصولا في واقع اللّغة، فوزّع عليها النطق العربيّ، منطلقا في البداية من الإمكان الذهنيّ غير آبه بالإمكان الواقعيّ إلا في مرحلة التجربة، والتّحقق، المرحلة التي يتمّ فيها الانتقال من العلم الرياضيّ، إلى العالم الواقعيّ المشخّص.
ليس هذا وحسب بل إنه ليخيل إلينا أن الخليل بن أحمد الفراهيديّ بتعامله مع الحروف الهجائيّة العربيّة الثمانية والعشرين كمجموعة أصلية اشتق منها المجموعات الفرعيّة الكامنة فيها والتي تشتمل على عنصرين إلى خمسة عناصر، إنما كان يطبّق بوعي جانبا أساسيّا من العمل الرياضيّ المؤسس لنظرية المجموعات في صيغتها المعاصرة: يتعلّق الأمر هنا بالمبدأ الذي بنى عليه الخليل (رحمه الله) معجمه الشهير (معجم العين)، والذي كان أول معجم في العربيّة، بل لربما أول معجم من نوعه في تاريخ اللغات.
لقد لحظ الخليل إن الكلمات العربيّة هي إما ثنائيّة، أو ثلاثيّة، أو رباعيّة، أو خماسيّة، أما ما فوق ذلك فحروف زائدة يمكن الاستغناء عنها بردّ المزيد إلى المجرد، وبناء على ذلك أخذ يركّب الحروف الهجائيّة العربيّة بعضها مع بعض مثنى، وثلاث، ورباع، وخماس، مستنفذا في ذلك كلّ التراكيب الممكنة. مثلا: أبد، أدب، بدأ، بأد، دأب، دبأ، ثمّ يفحص بعد ذلك هذه الألفاظ ـــ المجموعات ـــ فما وجده منها مستعملا أبقاه، وسجّله، وما وجده غير مستعمل أهمله. وإذا كان الخليل لم يتمكن من إنهاء مشروعه الضخم، فإن عمل اللغويين الذين جاؤوا بعده مباشرة كان محصورا، أو يكاد في إتمام هذا المشروع. وهكذا كان القرآن الكريم دافعا إلى التبحّر في اللغة، وتحمّل المشاق في سبيل جمعها، وتخليصها، وتنظيمها.