أسلوب التكرار وأسراره البلاغية   :
يمثل التكرار ظاهرة لغوية تؤدي وظيفة اسلوبية تعمد الى الابانة والكشف
وتوكيد المعاني ذات الغاية الثنائية: التاثيرية والتقريرية للوصول الى مقاصدها الاخبارية والفنية ، فالتكرار ، إذ يعمل على تحفيز المتلقي واثارة انتباهه نحو المضمون عن طريق الاستخدام اللغوي الذي يحمل وظيفة انفعالية وجدانية تتردد اصداؤها وتأخذ دورها من خلال تفاعل العنصر الخارجي ، ويبرز التكرار
فناً تأثيرياً عندما يعمد الى استعادة واسترداد المعنى واللفظ المتقدم مؤكداً حضوره انطلاقاً من المعنى اللغوي فـ((الكر: الرجوع على الشيء ، ومنه التكرار ، وكر عنه: رجع ، وكر الشيء: اعاده مرة اخرى ، وكررت علية الحديث: اذا رددته عليه)). 
فهو فن استرجاعي يقوم على اساس استحضار المعنى اكثر من مرة وذلك لتحقيق
البعد اللغوي والتأثيري وخلق الانسجام والتآلف بينهما سواء كان باللفظ ام بالمعنى ،

ان الغاية المنشودة من عملية التكرار هي إبراز جوهر قضية ما والبحث عن مكنوناتها بالعودة اليها لفظاً ومعنى هذا الاهتمام يؤدى بطريقة مغايرة للمألوف وان كان
من الناحية الشكلية يبدو محافظاً على هيئته الأولى ، إلا ان حقيقة الامر تكمن في ان الرجوع الى المعنى ذاته يحول لغة الخطاب المباشر الى لغة مجازية قابلة للتأويل مما
يحرفها عن مسارها الإخباري يتم معرفتها والوصول الى غايتها عن طريق وظيفة التكرار
الاستدلالية ، إذ ان عملية الاسترداد اللفظي والمعنوي تمثل تحفيزاً للمتلقي يدعوه الى
التأمل والبحث عن سر استعادة المعنى ذاته لأكثر من مرة في السياق الواحد ، فيبدأ
بالكشف عن التفاعلات الداخلية للنص ، ومعرفة اثارها على المعطى الخارجي فتتولد عن
عملية التفاعل دلالة جديدة متأتية من اشتراك المتلقي في صيرورة المعنى وانحرافه
مع احتفاظه الشكلي بهيئته الخارجية ، فهو يخضع لقوانين خفية تتحكم في العبارة محققة التعادل الموضوعي بين المضمون والمقصود من خلال هندسة لفظية تحقق الانسجام
والتآلف بين الدلالة والاثر المعنوي الذي يخاطب المتلقي عبر وسائل الاتصال غير
المباشرة المتوارية خلف الملفوظ اللغوي  ،والمنبثقة من إعادة الصياغة اللفظية او المعنوية لتأدية المعنى ذاته في ظل اجواء ذهنية مغايرة ، لأن الأثر الذي يسجله الموقف الاول
للخبر يختلف عن الموقف الذي يرتد ثانية ذلك أنه يمثل في الاولى اعلانا وصرفه عن
وجوده ، أما في الثانية فانه يأتي معززاً وموضحاً للمتقدم مما يسهم في ايجاد العوامل الفنية التي تعطي المعنى روحاً
جديدة تخرجها من طور التقييد والتعقيد اللغوي والنحوي الى طور إيحائي تعبيري يؤدي المقصود ، وإثراء المعنى وتحقيق غايات التكرار الناجعة والمؤدية لأغراضه كافة في سياق تركيبي منتظم معبراً عن علوم البلاغة في جوانب معينة ، إذ يدخل في مصطلحات
المحسنات المعنوية التي درست في علم البديع  كرد الاعجاز على الصدور، وتشابه الاطراف ، والعكس والتبديل ، والتردد ، والمشاكلة ، والارصاد والتسهيم ، والمشاركة ، والمجاورة والتفريق ، والتفريع. 
واذا ما كانت الاسرار البلاغية لا حصر لها فلقد جاء تخصيص التكرار بما هو ملزم لبلاغيتها التي لا تبرحه فكان التخصيص الثاني اكثر تحديداً وأتساعاً
في الوقت ذاته من خلال التعريف بالوظيفة الاساسية له كونه يمثل افصاحاً عن
(نكتة بلاغية) ، هذا المفهوم انما يندرج تحته إعمال ذهني وتفاعل آني لا يتحقق الا في سياقات خاصة تفصح عن وظيفة التكرار بحسب ظروفه المقامية ومتعلقاته داخل النص وخارجه فالتكرار ((كأية اداة لغوية يعكس جانباً من الموقف الشعوري والانفعالي ،
وهذا الموقف تؤديه ظاهرة اسلوبية تشكل لبنة اساسية من لبنات العمل الادبي)) ،
حيث تتعدد مظاهر التعبير عنه على وفق قواعد وقوانين تركيبية ودلالية خاصة والتي
انماز التكرار عنها بانه يدخل في اغلب عناصرها مضفياً طابعاً جمالياً يشمل الفنون البلاغية مبتدئاً بالبديع الذي يبرز دور التكرار فيه كعنصر موسيقي فني يسهم في تحقيق التناسق والانسجام الصوتي مع النص مروراً بالبيان الذي يؤدي غاية اساسية تكمن في توضيح المعنى وابانته وترسيخه ، لذا فان التكرار يعد ظاهرة متميزة على الصعيد البياني ، وقد تنبه الى
ذلك ابن الاثير فقدمه على انه ((من مقاتل علم البيان ، وهو دقيق الماخذ)) بعيد المنال ،
وهي بهذا تحقق الفائدة التي اكدها البلاغيون ، حيث ((ان لظاهرة التكرار ابعاداً
اسلوبية ودلالية ، فالكلمة الثانية في السياق لا تحمل المعنى الاول نفسه ، والا لكان الامر
يعد نوعاً من التكرار الذي لا يتضمن اية قيمة ولا مبرر لوجوده ، بل يعد نوعاً من الحشو والزيادة لا قيمة لها ، ولكن الكلمة الثانية تحمل معنى اضافياً جديداً هو مبرر وجودها)) وحضورها الفاعل في السياق وهذا المفهوم يتطابق مع دلالة الاطناب العامة الذي يعرف
بانه زيادة لفظية مؤدية الى زيادة معنوية سواء عن طريق التكرار أم غيره ، ويلحظ التناسب الطردي بين كلا الطرفين والتعادل الموضوعي للتراكيب التي تأتي لأجل إفادة المخاطب
وهي حاملة لسر بلاغي يتم استكناهه  ؛لتحقيق التفاعل بين البنى السطحية والعميقة للنص
لاجل غاية بلاغية. ويعد التكرار ظاهرة فنية في الدراسات الاسلوبية الحديثة منطلقاً من مقوماته التركيبية والدلالية ، فجاء البحث فيه حسب طبيعة الفن واحتياجاته ومقصدية النص ، وهو في كل ذلك انما يدور في ميادين معرفية واسعة.
ولما كان التكرار من الاساليب التي أكثر ما تخاطب النفوس ، فإنّ
صيغه التعبيرية قد تنوعت في القرآن الكريم لتحقيق غايته في الفهم والاقناع فغدا
للتكرار دوراً فاعلاً في ((اخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظم وجذب
النفوس الى سماعها لما جبلت عليه من حب التنقل في الاشياء المتجددة  ،واستلذاذاً
بها ، واظهارها وبخاصة في القرآن الكريم ، حيث لم يحصل في التكرار هجنة في
اللفظ ولا ملل عند سماعه ، فباين ذلك كلام المخلوقين)) ، وقد شغل هذا الفن
الاطنابي حيزاً واسعاً في القصص القرآني ولاسيما انه يعمد الى عرض الحدث اكثر
من مرة مراعياً لجوانبه كافة ، وهو بهذا التعدد انما يسعى لغاية واحدة تتمثل بتأكيد
العبرة والعظة فهو ((من جوانب تصريف القول الذي هو وجه من وجوه البيان
القرآني الذي قصد اليه الكتاب العزيز)) ، وغايته التأكيد والتفصيل في بيان الحدث
وابراز الغرض الديني الذي يعمد الى الاعادة بالأسلوب ذاته .
 

شارك هذا الموضوع: