ألّف سيبويه كتابه على هيأة كراريس نظرة في ضوء غلق المدونة
أ.د. حسن عبد الغني الأسديّ
جامعة كربلاء/كلية التربيّة للعلوم الإنسانيّة
مفاتيح المقالة: النحو، سيبويه، مفهوم الجملة ، المنهج التدويني.
وضع سيبويه كتابه (قرآن النحو) على هيأة كراريس “والكراسة معناها في كلام العرب: الورق المجموع بعضه إلى بعض الزاهر” (معاني كلمات الناس أبو بكر الأنباري في:1/ 376) وأرجح أنّ كل كراسّة قد خصّت بعنوان أو اشتملت على أبواب متعدّدة تجمعها فكرة محددة، ومن ثمّ ستلقي ظلالا على منهجية سيبويه في التدوين النحويّ(ينظر: أطروحتي للدكتوراه: مفهوم الجملة عند سيبويه، المستنصرية 1999). التي ظلّت عصيّة على الإدراك منذ أن بدأ تداول الكتاب.
وقد توصّلتُ إلى أنّ عدد أقسام الكتاب هي تسعة أقسام فيكون لكلّ قسم كراسة خاصّة به؛ فأثبتنا بذلك أنّ كتاب سيبويه امتلك خطّة لتنظيم أبوابه وهي خطّة دقيقة تشمل الكتاب كلّه وهو عمل لنا فيه فضيلة الجدّة والسّبق في ظلّ منهج المدوّنة المغلقة، وقد وصفت باحثة عراقية معاصرة ما قمنا به في منهجنا بقولها: “إذ نجده ينظر إلى الكتاب نظرة جديدة بمعزل عن التأثر بالتيارات اللغوية والأبحاث والدراسات التي تناولت مناهج البحث في اللغة ، فيتعامل مع نصوص سيبويه مباشرة من غير أنْ تكون غايته المقارنة بينها وبين غيرها، بل كانت غايته وصف النصّ وتحليله باعتماد مرجعيات النص نفسه، أي نظر إلى النصّ من داخله، وبمنطق فكريّ اتّسم بالتجريد -إلى حدّ ما- فكانت النتيجة قراءة جديدة للكتاب”(كتاب سيبويه في الدراسات النحوية الحديثة في العراق1950م -2000م، غادة غازي عبدالمجيد:22 أطروحة دكتوراه)
وأقسام كتاب سيبويه التي توصّلتُ إليها هي على النّحو الآتي:
المقدمة
 
 
 متن   الكتاب
القسم
محتوياته
القسم الأوّل: مواضع الاسم في الكلام
1. مواضع عمل الفعل (النّصب)
2. مواضع عمـل الجارّ(الـجــرّ)
3.  مواضع عمل الابتداء والمبتدأ (الرّفع)
القسم الثّاني: مواضع الفعل المضارع لأسماء الفاعلين في الكلام
1.   عوامل النّصب
2.   عوامل الجــزم
3.   عوامل الرّفــع
القسم الثّالـث: الاســم مفهوماً (اسميّة الحـــرف)
 
القسم الرابــع: الأسماء بين التنـوين وعــدمـــه
 
القسم الخامس: الأسماء المركبة (الاسم+ الحــرف)
 
القسم السّادس: الأفعال المركبة (فعل+ الـحرف)
 
القسم السابـع: الأسماء الّتي لا يغيرهــا العامـل
 
القسم الثّامــن: معــانــي الأحـــداث وأبنيتهـــا
 
القسم التّاسـع: ما يكون في اللفظ من الأعراض
 
 
وقد مثلت كلّ كراسة قسما من أقسام الكتاب؛ فلمّا فرغ منها جمعها كتاباً؛ بعد أنْ وضع لها مقدمة هي الأبواب السّبعة الأولى القصيرة التي وصفها سيبويه بقوله: “لأنّ هذا موضع جُمَلٍ وسنبيّن ذلك فيما نَستقبِلُ إن شاء الله(كتاب سيبويه1/32) يعني أنّها أبواب مجملة وليست مفصّلة؛ وتأمّل هذه الأبواب يقودنا إلى القول بأنّها بمنزلة النّظريات الفرعيّة التي قام عليها تحليل الكلام وفهمه، ونجدها واضحة في الكتاب وفي انتظام أبوابه. فسيبويه بمقدمته كشف عن وعيّ علميّ عميق لا يقارن به أحد حتّى العصر الحديث، وهذه المقدمة ألصق بمفهوم التّوطئة المنهجيّة المعاصرة. وأظنّ أنّ هذا العمل مثّل تطوّراً للطّريقة التي نسج عليها الخليل أستاذ سيبويه مقدمة معجمها الرائد “العين”. فكلا المقدمتين منهجيّتان أُسِّس عليها متنا الكتابين.
وههنا أذكر أنّ د.محمد كاظم البكاء هو أوّل من نبّه على أنّ سيبويه أورد لفظة كراسة في كتابه بقوله: “اتّضح لي أن سيبويه ألّف كتابه على هيأة كراريس” ( كتاب سيبويه بتحقيق البكاء(مقدمة المحقق).
وقد اكتفى د. البكاء بذلك، ولم يوظّفها في محاولة توضيح منهج كتاب سيبويه في التقويم النّحويّ(هي رسالته للدكتوراه:282. وينظر: الكتاب كتاب سيبويه-مقدمة الكتاب:184، المورد مج15 ع1-1990).
ونرى أن هذا الموضع في ضوء غلق المدونة يقودنا إلى ملاحظة ما يأتي:
  • الموضع الذي ذكر في سيبويه (كرّاسة) في كتابه: فقد ورد في “هذا باب من أبواب أنْ التي تكون والفعل بمنزلة مصدر”(الكتاب: 3/153) بقول سيبويه عرضاً: “ولا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال؛ لما ذكرت لك في الكرّاسة التي تليها..”(كتاب سيبويه:3/159). فهذه الإشارة عززت لدينا أن ترتيب أبواب الكتاب على الأقسام التسعة المذكورة آنفا وجدنا ما يصدقها من كلام سيبويه نفسه فقد أثبت سيبويه ههنا وجود ثلاث كراسات متتابعة على الأقل؛ فقد أحال إلى “هذا باب وجه دخول الرفع في هذه الأفعال المضارعة للأسماء(الكتاب3/9) وهو في القسم الثاني الخاصّ بالفعل الخاضع للظاهرة الإعرابية أمّا موضع هذا الكلام فقد ورد في القسم الثّالث وهو خاصّ بسلوك طائفة من الحروف مع ما بعدها مسلك الأسماء في الجملة. وسبقه القسمان الأول: للاسم بحسب الحالات الإعرابية والثّاني للفعل الخاضع لها.
ويمكننا أن نقرأ ما قاله سيبويه ههنا على النحو الآتي: ولا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال؛ لما ذكرت لك في الكرّاسة التي تلي الأسماء وهي كراسة الأفعال. فالضمير في (تليها) يعود للأسماء. يعني هناك كراسة للأفعال تلي الكراسة التي للأسماء.
  • يسعفنا إيراد أل العهديّة في (الكرّاسة) التي تشير إلى انفصال هذا الموضع (موضع ذكر كلمة الكراسة) عن الكراسة المعهودة التي للأفعال.
  • لقد وثّق سيبويه نفسه بهذا الموضع لمنهجه التدوينيّ، وبذلك عضّد ما توصلتُ إليه في خطة الكتاب التّدوينيّة الذي كنت قد أثبتّ معالمها قبل الوقوف على هذا الموضع الذي ذكر الكراسة.
وبذا فإنّ ما قدّم الباحثون العراقيون في دراسة كتاب سيبويه “استطاع وبجدارة كبيرة أن يرد كل الأقوال الذاهبة إلى أن سيبويه خلط بين أبوابه وغاب عنه التنظيم والتنسيق، ولا أظن أن أحداً من الباحثين المحدثين قدّم تصوراً منهجيّاً للكتاب بالشكل الذي قدمه كلّ من الباحثين: محمد كاظم البكاء ، وكريم حسين ناصح، وحسن الأسدي، على الرغم من اختلافهم في بعض وجوه التّصنيف، إذ إن ما قدّموه من عمل يدلّ على أنّ الكتاب كان موسوعة لغوية وابتكاراً منهجيّاً في ميدانه، كما يدلّ على إبداع العقل العراقيّ، وعدم وقوفه مكتوف الأيدي إزاء ما كان يمثّل لغزاً منهجيّاً محيّراً في نظر كثير من الباحثين المحدثين، هذا ما ظهر من كتاباتهم التي دارت أحياناً حول منهج تأليف الكتاب. وعليه فإنّ ما تقدم من جهود تصرّح قاطعة بأن الكتاب ليس خالياً من منهج بل إنّ منهجه يتّسم بالابتكار والاستيعاب للغة في مستوياتها المختلفة”(كتاب سيبويه في الدراسات النحوية الحديثة في العراق1950م -2000م:43).
وننوّه ههنا إلى أنّ الحصيلة المنهجيّة التي خرج بها بعض الباحثين في أطروحته (التقويم النّحويّ للأساليب في كتاب سيبويه) أنَّ منهج سيبويه في الكتاب يقوم على فكرة الإسناد، ورأى أنَّ أبواب الكتاب تتابع على النّحو الآتي:
مقدمة الكتاب
الجزء الأوّل من أبواب النحو في الكتاب: أحكام الإسناد مع الاسم المظهر التام.
أولا: إسناد الفعل وعمله في الأسماء والمصادر وما يعمل عمله.
ثانياً: إسناد الاسم وأحوال أجزائه على ما قبله.
ثالثاً: الإسناد الذي يعتمد الأداة، ويجري مجرى الفعل أو كان بمنزلته.
الجزء الثاني من أبواب النّحو في الكتاب: أحكام الإسناد مع غير الاسم المظهر التّامّ.
القسم الأوّل: علامات المضمرين.
القسم الثّاني: الاسم الناقص.
القسم الثّالث: ما لا ينصرف.
القسم الرّابع: الأسماء الّتي لا تُغيَّر في باب الحكاية.
ونرى أنّه على الرغم ممّا قدّمه الباحث من جهد ونظرة جديدة ومغايرة لإظهار منهج الكتاب إلاّ أنَّ هذه النتيجة تشتمل على ما ينقضها إذ هي انعكاساً لتصوّرات خارجيّة عن الكتاب حمّلها الباحث نظرته الجديدة!!، فجعلتْ منهجه قائماً على تتابع موضوعات النّحو ثم الصّرف ثم الأصوات؛ وهو تصوّر متأخّر للدّراسات اللغويّة عن زمن سيبويه، إذ حدّ الباحث منهج الكتاب بأبواب النّحو الّتي تنتهي مع انتهاء باب الحكاية الّتي لا تغيّر فيها الأسماء. وذلك يتعارض مع الوحدة المنهجيّة الّتي كانت سائدة للدّراسة اللغوية أيام سيبويه؛ فسيبويه لم يكن بصدد فرز الصرف عن النحو ولم يكن هناك أي دليل من داخل الكتاب على هذا الفرز. ممّا يعني أنّ ما قدّمه الباحث يتعارض مع الوحدة المنهجيّة للكتاب …
تلك الوحدة المنهجيّة التي استطعنا أن نبرهنَ عليها برصد دقيق لأبواب الكتاب وتراتبها وكيفية صياغتها عبر ما وسمناه بـ(منهج سيبويه في التدوين النّحويّ).

شارك هذا الموضوع: