أهمية الفصاحة والبلاغة عند العرب 
حين نتلمس البذور الأولى للفصاحة والبلاغة قبل عهد التأليف، نجد العرب عرفوا كثيراً من الأحكام البلاغية، التي جعلت شعرهم ونثرهم على مرتبة عالية من البلاغة والبيان، فامتلك العرب ناصية القول وعاشت الفصاحة والبلاغة في عقولهم وجرت على ألسنتهم، وراج الشعر والنثر في أسواقهم وامتازوا بأجمل الأساليب البلاغية، فتفاخروا فيما بينهم، فكان الكلام البليغ هو الباعث على تفاخرهم، مما يدلّل على أنّ العرب عرفوا قوانين الفصاحة والبلاغة وتداولوها شفاهاً وانتهجوها في بناء كلامهم. ومما يؤكد ذلك ما قاله الجاحظ(ت255هـ) في أن لغة العرب منذ الجاهلية فاقت كل اللغات، بفصاحتها وبلاغتها، واللسان العربي فاق غيره قدرة على التعبير الصحيح، ومنذ أن بدأ عهد التأليف عند العرب، عُنيَت كتبهم النقدية بتقديم مفاهيم كثيرة، عرضوا لشروطها وأهميتها لبناء الكلام الأجود والأفضل، وجعل النص متماسكاً، مقبولاً لدى المتلقي، مؤدياً المعنى المراد إيصاله على الوجه الأكمل، فتوالت تلك الكتب منذ القرن الثالث الهجري وصولاً إلى القرن السابع الهجري الذي مثّل مرحلة الاستقرار في المصطلحات البلاغية والنقدية ومن بين تلك المفاهيم (الفصاحة والبلاغة)، فقد حظيت بعناية كبيرة؛لارتباطها بالدراسات القرآنية، فنجد الرازي (ت 606هـ) يذهب إلى أنّ القرآن الكريم معجزٌ في فصاحته، وعدّ مباحث الفصاحة من أشرف المطالب الدينية وأرفع المباحث اليقينية، وقد أشار إلى ذلك أبو هلال العسكري (ت 395هـ) من قبل حين عدّ الفصاحة من أحق العلوم بالتعلم لأنها من اشرف العلوم، فقال: (( أحق العلوم بالتعلم، وأولاها بالتحفظ- بعد المعرفة بالله جلّ ثناؤه- علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة))(.
قسّم البلاغيون العرب الكلام على مراتب، ويستند هذا الى رؤيتهم لأهمية قيم الفصاحة والبلاغة، إذ تستمد أعلى مراتب الكلام علوّها من علو القيم البلاغية المشتملة عليها، فالمرتبة العليا، تمثل أعلى مراتب الكلام، ويبلغ الكلام فيها حد الإعجاز، وهذا الكلام من المعجزات التي لا يقدر على تأليفها البشر وتتمثل عندهم بالقرآن الكريم، فهو المعجزة الإلهية التي سحرت العقول بسحر الفصاحة والبيان، فهو في أعلى المراتب من حيث النظم وتناسق الألفاظ والمعاني، وجمال التصوير وحسن التعبير، وقوة التأثير في السامع.والمرتبة السفلى، تمثل الكلام الذي خلا من قيم الفصاحة والبلاغة فهبط إلى أدنى المستويات، وفيما بينهما مرتبة وسطى، مرتبة متفاوتة يرتفع بعضها عن بعض، بحسب درجة تمثلها لقيم الفصاحة والبلاغة.
تمثل هذه المراتب الإحساس والذوق والشعور والتفنن في القول في اختيار الألفاظ وبناء الكلام البليغ عند العرب، فمن خلال تقسيم الكلام على مراتب ميزوا بين كلام وكلام وهذا ما ((يجعل البلاغة اشد ارتباطاً بالأسلوب حيث يصبح الأسلوب هو السمة المميزة لكل طبقة من طبقاتها)) ، وارتبطت مفاهيم الفصاحة والبلاغة والإعجاز مع بعضها البعض، فأصبحت هذه المفاهيم وسيلة لفهم كتاب الله، فـ ((إنّ هذه المفاهيم مرتبطة مع بعضها البعض ارتباطاً وثيقاً، لان لها علاقة بفن القول والإبلاغ والتواصل، وصولاً إلى معجزة الرسول (ص) وفهم كتاب الله)) ، وتعدّ قيم الفصاحة والبلاغة جوهرية وضرورية في صناعة العمل الإبداعي وبنائه، ((لأنّ الصور البيانية، وأنواع البديع ليست صيغاً تالية يؤتى بها للتزيين والتحسين وإنّما هي جوهرية في لغة الشاعر لا تتحقق المادة الشعرية إلاّ بها)) ، فالأدب هو فن اللفظ والمعنى،و فن التركيب والتعبير، وكل ذلك يعني الفصاحة والبلاغة، فهو فصيح باعتبار لفظه، وبليغ باعتبار لفظه ومعناه، فالفصاحة والبلاغة ((تشكلان مجالاً معرفياً يهتم بعلاج النص عموماً)) ، فالكلام البليغ يتغلب على هوى المخاطب أو رأيه، لان البلاغة تأثير نفس في نفس، وفكر في فكر، فالمبدع يمتلك الموهبة، فيجعل من النص نصاً بليغاً، فهو عنده موهبة الإقناع الناشئة من موهبتين إحداهما مؤثرة في عقل المتلقي، لأنها موهبة معلّمة ومفسرة لمعنى الكلام، والأخرى جاذبة ومؤثرة في قلب المتلقي، البلاغة إذن تخاطب العقل، أو تخاطب القلب أو تخاطبهما كليهما معاً، فهي مؤثرة في كيان المتلقي كله. فالبلاغة ((من بين العلوم الأدبية، هي روح الأدب، والأدب مادتها؛ تُعلم صنعه؛ وتبصر بنقده؛ ولن تعدو البلاغة ذلك، عند القدماء والمحدثين، مهما يختلفوا حوله أو يغيروا حدوده)) ، فلا يمكن أن يعد النص الأدبي ناضجاً، ما لم يشتمل على الفصاحة والبلاغة، لأنها تتناول المعاني والألفاظ، فتهدف إلى إعطاء المعاني الدقة في التعبير، وتعطي الألفاظ ترابطاً، وتضيف على الأسلوب الجمال، فتجعل نسيج النص في بناء متكامل كاجتماع الروح والجسد.
لقد عدّت مفاهيم الفصاحة والبلاغة من أهم المصطلحات وأكثرها تداولاً في كتب النقاد والبلاغيين، لأنها ارتبطت بالإعجاز القرآني، وأقامت علاقات قوية مع الأسلوب، وارتبطت بعملية إنتاج النص وعملية الإيصال ككل، ونضيف أمراً آخر لأهمية الفصاحة والبلاغة في بناء النص، فهذه المفاهيم في تعريفها وشروطها عند البلاغيين العرب، وجهت عنايتها وتناولت في بحثها أقطاب العملية الإبداعية، فكانت رؤية البلاغيين لها رؤية شاملة، فوجهوا عنايتهم بالمبدع والنص والمتلقي، فعنوا بدور المبدع من خلال ما وضعوا أمامه من شروط لاختيار الألفاظ الجيدة والمعاني الحسنة، وعنوا بالخصائص الأسلوبية للنص وكيفية تركيب الكلام واختيار الصور فيه، وعنوا بالمتلقي من خلال تكرارهم لعبارة مطابقة الكلام لمقتضى الحال لذلك كانت تلك المفاهيم شرطاً أساسياً في بناء النص.
 

شارك هذا الموضوع: