أَثرُ الحِجاجِ التقابليِّ بينَ الأَعمى والبصيرِ في تحقيقِ الإِقناعِ:
                                                                                                                   مَقالٌ بقلمِ الباحثةِ (زهراء شاكر محمد) 
طالبة ماجستير (السنة البحثية) 2024-2025.
 
     إِنَّ للحُجِّةِ بلوغًا قاطعًا عندما يَقِفُ الخصمُ عاجزًا عن ردِّ بُرهانِها ودليلِ وجودِها ما يُحقِّقُ الإِقناعَ بها شاء الخصمُ أَن يُقِرَّ بها أَم أَبَى ؛ فعجزُه وفشَلُه في الردِّ والدَّحضِ هو المِصداقُ لهذا الإِقرارِ.
     وبهذه الحقيقةِ يُفحِمُ الأَنبياءُ (عليهِمُ السلامُ) خصومَهم من أَقوامِهم وأَعدائِهم بما وثقه النصُّ القرآنيُّ. ومن هذا التوثيقِ قولُه تعالى: قُل لَّا أَقولُ لَكُم عِندِي خَزائِنُ اللـهِ ولا أَعلَمُ الغَيبَ ولا أَقولُ لَكُم إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحَى إِلَيَّ قُل هَل يَستَوِي الأَعمى والبَصيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرونَ [الأَنعام/٥٠].
     وقد تجلَّى في هذا النصِّ القرآنيِّ الكريمِ تقابلٌ دَلاليٌّ قائمٌ على التضادِّ بينَ رُكنَين رئيسَين هما (الأَعمى) و(البصيرَ) في معيار الاستواءِ مَيزًا لأَحدِهما على الآخرِ.
     فالأَعمى هو الذي حُجِب  بصرُه فلا يرى شيئًا مطلقًا سوى السوادِ الذي يراه بدلَ كلَّ شيءٍ يكونُ أَمامه. والبصيرُ هو الذي صَحَّ بصرُه فهو الذي يرى كلَّ شيءٍ بحقيقتِه.
     ومن مصاديقِ هذا العمى أَنَّ صاحبَه لا يرى الحقيقةَ ، ولا يَتَّبِعُ الصوابَ ، ولا يقبلَ النُّصحَ ، ولا يمتثلُ بالأَمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ ، إِنَّه لا يُؤمنُ برسالةِ الهدايةِ الإِلهيةِ التي حُمِّلها النبيُّ (صلَّى اللـهُ عليه وآلِه) ؛ فانعدامُ طاعتِه وانقيادِه للحقِّ  كانعدامِ البصرِ من الشخصِ الأَعمى. وهذا هو الجانبُ السلبيُّ المُدلَهِمُّ لديه. وحالُ مَن مَرِضَ به هذا العصرَ وكلَّ عصرٍ كحالِ قومِ ثمودٍ في قولِه تعالى: وأَمّا ثَمودُ فهدَيناهُم فاستَحَبُّوا العَمى علَى الهُدى فأَخَذَتهُم صاعِقَةُ العذابِ الهُونِ بما كانُوا يَكسِبونَ [فصلت/١٧].
     وأَما البصيرُ فهو الذي اتَّبعَ الحقَّ ، واهتدَى بنورِه ، وأَدركَ الصوابَ  ؛ فهو – إِذًا – على بيِّنةٍ من أَمرِه كالذي يرَى بعينِه طريقَين أَحدُهما نظيفٌ مُعبَّدٌ ، والآخرُ غيرُ مُعبَّدٍ وملِيءٌ بالقِمامةِ ؛ فيرَى سلامتَه بأَن يسلكَ الطريقَ النظيفَ. وفي هذا الاختيارِ بُعدٌ نفسيٌّ يُفضِي إِلى نقاءِ النفسِ واطمئنانِها ، والهِمةِ في الإِنجازِ والسعيِ الدؤُوبِ في العملِ الصالحِ. وبهذا يُمكنُ أَن نعُدَّ التقابلَ الواردَ في هذا النصَّ الموازنِ بينَ (الأَعمى) و(البصيرِ) حِجاجًا قد بلغَ التأثيرَ المقصودَ.
     قال عبدُ القاهرِ الجرجانيّ (ت 471هـ): (( واعلَمْ أَنَّ التمثيلَ إِذا جاءَ في أعقابِ المعاني ، أَو أَبرزت هي باختصارٍ في معرِضِه ، ونُقِلت عن صورِها الأَصليةِ إِلى صورتِه كساها أُبَّهةً ، وأَكسبَها منقبةً ، ورفع من أَقدارِها ، وشَبَّ من نارِها ، وضاعف قِواها في تحريكِ النفوسِ لها ، ودعا القلوبَ إِليها ، واستثار لها من أَقاصي الأَفئدةِ صبابةً وكلَفًا ، وقسَر الطباعَ على أَن تُعطِيَها محبةً وشغَفًا))().
     وهذا ما نقلَه مضمونُ العمى من جهةِ الذمِّ ، ومضمونُ البصرِ من جهةِ المدحِ من بيانٍ كاشفٍ عن حقيقةِ عدمِ استِوائِهما ، ورجحانِ كفةِ البصرِ بلا قياسٍ على كفةِ العمى.
 

شارك هذا الموضوع: