عوامل ظهور مصطلح النحو القرآني واتّجاهات التأليف فيه
أ.د. عباس علي إسماعيل ، مدرّس مادة فقه اللغة ، قسم اللغة العربيّة
لم يرد مصطلح النحو القرآني في مؤلفات علماء العربيّة القدماء ، لكنّ مسائل النحو القرآني كانت لم تكن غائبة في هذه المؤلفات ؛ إذ وردت مسائل النحو القرآني في كتب تفسير القرآن ومعانيه وإعرابه وغريبه ، وكذلك وردت مسائل هذا النحو في كتب النحو القديمة ، ولاسيَّما المتأخرة منها؛ فبعض المحققين من النحويين كانوا يحرصون في أثناء معالجتهم مسائل النحو المألوف على ذكر بعض الشواهد القرآنيّة التي تخالف القواعد التي تواضعوا عليها ، وكانوا يقفون من بعض هذه القواعد موقف الرافض المنكر؛ استئناسًا بأسلوب القران وشواهده ومن هؤلاء :الفرّاء (ت207ه) و الأخفش الأوسط (ت215ه) ، وابن جني(ت392ه) ، والزمخشري(ت538ه) ، وابن مالك (ت672ه) ورضي الدين الاسترابادي(ت 686ه)،وأبو حيّان الأندلسي (ت 745ه)، وابن هشام (ت761ه).
أي إنّ مباحث النحو القرآني في كتب علماء النحويين القدماء كانت متداخلة مع مباحث النحو المألوف ، ومن هنا يمكن القول : إنّ ما يسمّى بالنحو القرآني ليس نحواً جديدًا أو مبتكرًا أو منفصلًا عن نحو العربيّة.
وفي العصر الحديث ظهرت دعوات تنادي بإصلاح قواعد النحو المألوف ، وإعادة تشكيله من جديد ،وتيسير قواعده ، وتخليصه من الشوائب التي علقت به من مثل : نظرية العامل ، وإدخال الفلسفة والمنطق في دراسته ، ورفض العلل الثواني والثوالث والاكتفاء بالعلّة الأولى ، وتيسير قواعــــده عن طريق العودة إلى الأصـــــــــــــول الأولى ، والإفـــــــــــادة الجادة من أسلوب القــرآن الكريم وشواهــــده ، وجعلـــــــــــه المصدر الأول في تقعيــــــــــد قواعد النحو ،فظهر فيما بعـــــــد مصطلـح النحو القرآني في كتابات بعض الدارسين المحدثين . إذن الدعوة إلى ما يسمّى بالنحو القرآني قد ارتبطت بدعوات تيسير النحو التي نادى بها كثير من الدارسين المحدثين ، وهي دعوة ترى أنّ اعتماد النصّ القرآني إحدى وسائل تيسير النحو وتصحيح الانحراف في منهج الدرس النحوي القديم.
ويبدو أنّ الدكتور إبراهيم أنيس أوّل من مهد لظهور فكرة النحو القرآني ، وذلك في كتابه (من أسرار اللغة) ؛ إذ عاب على النحويين اعتمادهم في وضع قواعد النحو على الشعر أكثر من اعتمادهم على النثر ، مع أنّ للشعر لغة خاصة ، وكذلك عاب عليهم تخطئتهم القراءات القرآنيّة ، وذكر أنّ عليهم أن يكتفوا بآيات القرآن الكريم ، وبما صحّ لديهم من النثر العربي في رسم حدود العربيّة ، ثمّ جاء بعده الدكتور تمّام حسن في كتابه (اللغة بين المعياريّة والوصفيّة)، وفيه دعا إلى الاقتصار على القرآن والحديث في وضع قواعد العربيّة.
وكان الدكتور عبد العال سالم مكرم أوّل من استعمل مصطلح النحو القرآني ،وذلك في كتابه (القران الكريم وأثره في الدراسات النحويّة)(4)، وممّن استعمل هذا المصطلح من الباحثين العراقيين الدكتور مهدي المخزومي (رحمه الله) في كتابه (قضايا نحويّة) ، وكذلك الدكتور كَاصد الزيدي (رحمه الله) في كتابه (دراسات نقديّة في اللغة والنحو).
وقد سار الدارسون المحدثون في دراستهم مفهوم مصطلح النحو القرآني في ثلاثة اتّجاهات، اتّجاه : جعل مصطلح النحو القرآني عنواناً لكتابه ،ولعلّ أهم من يمثل هذا الاتجاه : الدكتور عبد الستار الجواري في كتابه (نحو القران) ، والدكتور أحمد مكي الأنصاري في كتابه (نظرية النحو القرآني)، والدكتور جميل أحمد ظفر في كتابه (النحو القرآني قواعد وشواهد)، والدكتور سعدون الربعي في كتابه(النحو القرآني بين الفرّاء والزّجاج والزمخشري) ، والدكتورة هناء محمود إسماعيل في كتابها (النحو القرآني في ضوء لسانيات النصّ).
والاتجاه الآخر خصّص لمفهوم النحو القرآني فصلًا أو مبحثًا؛ فتحدّث عنه في أثناء مؤلفه ، ومن الذين يمثلون هذا الاتجاه الدكتور عبد العال سالم مكرم في كتابه (القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحويّة)، والدكتور مهدي المخزومي في كتابه (قضايا نحويّة) ، والدكتور الهادي الجطلاوي في كتابه(قضايا اللغة في كتب التفسير) ، والدكتور كَاصد الزيدي في كتابه (دراسات نقديّة في اللغة والنحو ) ، والدكتور علي كاظم أسد في كتابه ( المفسر ومستويات الاستعمال اللغوي ) .
على أنّ مصطلح النحو القرآني ، أو نحو القرآن لم يكن دقيقاً فيما يُراد به في أذهان كثير من هؤلاء الباحثين، ، فالدكتور صباح علاوي السامرائي قام بدراسة سمّاها (دراسات في النحو القرآني) . ونظرة عجلى في هذه الدراسة يتّضح لنا أنّ أكثر المباحث التي درسها في كتابه لا علاقة لها بالنحو القرآني؛ وذلك لأنّ عمله يدخل في إطار اختلاف النحويين والمفسرين في إعراب آيات سورة الواقعة ودلالاتها، وقيام اللام مقام بعض الأدوات ، مثل : إلى وعلى ، فضلًا على دراسة القراءات القرآنيّة لبعض القرّاء ودلالة كلّ قراءة
ومثل ذلك يُقال عن الدكتور عبد الجبار فتحي زيدان ؛ إذ كتب كتابًا، سمّاه (دراسات في النحو القرآني )، طبعه سنة 2006م ، درس (ما) ومعانيها واستعمالاتها في القرآن الكريم متّخذًا من اختلاف آراء النحويين والمفسرين في تفسير معاني (ما) في القرآن الكريم محوراً لهذه الدراسة.
ولاشكّ في أنّ دراسة كهذه لا تدخل في باب النحو القرآني ، وإنّما يكون تسميتها: (ما) في لغة القرآن الكريم دراسة نحويّة . ويبدو أنّه أحس أنّ العنوان (دراسات في النحو القرآني) لا ينطبق على دراسته ؛ فقام بطبع هذه الدراسة مرّة أخرى سنة 2009م بعنوان : (ما في القرآن الكريم دراسة نحويّة).
وممّا يلاحظ على هذه الكتابات أيضًا أنّ كثيراً من أصحابها ما كانوا يميّزون بين مصطلحات: النحو المألوف، والنحو العربي، والنحو القرآني، والنحو في لغة القرآن؛ فنرى أكثرهم يأتي بالقاعدة النحويّة التي اتّفق عليها النحويون ، ويمثل لها بشواهد قرآنيّة ، ويسمّي هذا الصنيع نحوا قرآنيًّا، والتمييز بين مصطلحات : النحو المألوف ، والنحو العربي ، والنحو القرآني ، والنحو في لغة القرآن يحتاج إلى مقالة منفردة.
ويبدو لي أنّ من الخطأ تسمية عمل كهذا نحواً قرآنيًّا ، والصحيح تسميته النحو التقليدي ، أو النحو المألوف على أساس أنّ القرآن مصدر من مصادر السماع في وضع قواعد النحو.
وثمة اتّجاه ثالث من الباحثين قد ذكر بعض المسائل التي تتّصل بالنحو القرآني في أثناء دراسته موضوعات نحو المألوف أو موضوعات نحويّة تتّصل ببنية النصّ القرآني من غير أن يشير إلى مصطلح النحو القرآني ، وأهم مَن يمثل هذا الاتجاه الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع الدروس العربية) ، والدكتور عبّاس حسن في كتابه(النحو الوافي)، والدكتور عبد الخالق عضيمة في كتابه (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) ، والأستاذ محيي الدين الدرويش في كتابــــــه (إعــــــراب القرآن الكريم وبيانه ) ، والدكتورة شيماء رشيد محمد زنكنة في أطروحتها للدكتوراه (الخلاف النحوي في بنية النصّ القرآني) .
وهناك باحث عراقي سخّر عددًا غير قليل من صفحات كتابه( النحويون والقرآن) في دراسة مسائل النحو القرآني، وهو الدكتور خليل بنيان الحسون ، ونحن نزعم أنّ هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد من الكتب التي ذكرناها يستحق أن يحمل عنوان النحو القرآني غير أنّ صاحبه لم يسمّه بهذا الاسم ، وكأنّ هذا الباحث أراد أن يقول :إنّ هذا المصطلح ما كان ليظهر إلى النور في كتابات الدارسين المحدثين لو أنّ النحويين اتبعوا الطريق المستقيم والنهج السليم في رسم قواعد النحو، وهو الاعتماد على القرآن الكريم وعدّه المصدر الأول من مصادر السماع ، وأخذ بكلّ ما جاء فيه من شواهد ، ولاسيّما أنّ إشكال التراكيب الواردة في القرآن الكريم لها شواهد تناظرها من كلام العرب .
واذا كان الاتّجاهات الأول والثاني اتّجاهين جديدين في دراسة مسائل النحو القرآني ، فإن الاتّجاه الثالث لم يكن جديدًا على الدرس النحوي القديم، وقد بيّنت في صدر هذا المقال أنّ علماء العربيّة القدماء قد اتّجهوا هذا الاتّجاه في دراسة مسائل النحو القرآني ، وهذا ما يمكن أن نراه في كتب تفسير القرآن ومعانيه وإعرابه وغريبه، وكذلك في كتب النحو القديمة ، ولاسيّما المتأخرة منها.