آراء الدارسين المحدثين في الشاعر دعبل بن علي الخزاعي (246 هـ )
(4) أ.م.د. علي ذياب محيي العبادي
إن هذه الصفات الخطيرة التي يطلقها الدارسون قديماً وحديثاً لها جذورها وربما تعود الى صدر الدولة العباسية . فيقول المرحوم الدكتور محمد مهدي البصير : (( لا أريد ان أركن الى هذه الروايات …. لأني أعلم أن الاتهام بالزندقة هو الستار البراق الذي كان يسدله ولاة الأمور في صدر الدولة العباسية على كل جريمة يحلو لهم اقترافها ، فكل من خالفهم في السياسة أو أي شأن من الشؤون التي تهمهم زنديق يجب قتله ولا يحل الابقاء على حياتِهِ )) .
ومن المحدثين الذين أدلوا بدلوهم لوصف دعبل الخزاعي الدكتور يونس السامرائي الذي ترجم دعبلاً قائلاً : (( وأحسن مَنْ عرف بشاعريتهِ ونفسيتهِ ابو الفرج ، حيث قال : شاعر متقدم مطبوع الهجاء خبيث اللسان …… ويخيل الينا ان من دوافع اتجاهه هذا هو حدة مزاجه الذي قد يقرب من حالة المرض .
والحق أن دعبلاً لم يستقر في مكان معين مدة طويلة ، وإنما كان هارباً طريداً شريداً من وجه العدالة كما يقال في الوقت الحاضر ، (…) على أن الرجل لم يكن من طراز الأبطال والشجعان وأرباب التحدي للآخرين )) .
ولعَّل ما جاء به الدكتور المرحوم قد ساير به القدماء ولا سيما أبو الفرج في أغانيه إلا أنه زاد عليه عندما جعل من دعبل مصاباً بمرض نفسي بسبب حدة مزاجه ولعل هذه الصفة أفضل وأقل خطورة من سابقاتها التي وُصِفَ بها الشاعر..
أما الدكتور محمد جابر عبد العال فقد جعل من دعبل حامل لواء الشعراء المجان فكان هجاؤه طعنا وكذبا ، وكان يستغل الحوادث ليسب ويطعن طعنات نجلاء ، ليرضي نفسه الثائرة وقلبه المتقد وصدره الذي يغلي بالحنق على العباسييـن ورجالهم ، عسى أن يدفع ذلك الأمة الإسلامية أن تلقي عن كاهلها حكم بني العباس ، وتودعه عند بني علي كرم الله وجهه. فكان يفعل على نحو ما كان يفعل أسلافه من المجان . ولم يكتف الكاتب بما ذكر بل ذهب إلى ابعد من ذلك حين قال (( لم يكن لأحد مكانة في نفسه ، ولم يسلم من طعنه إلا من كان سليل آل البيت ، أو كان على عقيدته السياسية ، وهي ـ فيما يبدو ـ العقيدة التي عرفت بالأمامية ، ولقد دعته عقيدته الدينية والسياسية معا أن يسرف في الهجاء وفي الفحش ، ويتفوق على سابقيه المجان تفوقا يشهد له بسلاطة اللسان ، وطول الباع في هذا الميدان ،حتى انتقل إلى سب الأموات ، عادلا به عن طريق الشعراء إلى مسلك الروافض في سبِّ الأحياء والأموات )) .
وارى أن الكاتب قد خلط كثيرا في آرائه هذه التي ربط فيها هجاء دعبل للخلفاء هو مسلك الشيعة الامامية في الإسراف في السب والفحش ، وهذا تجاوز على آل البيت (عليهم السلام ) لانهم اصل المذهب واساس الشيعة الامامية ((وإذا كان في الأدب الشيعي شيء ، فعذره انه أدب حزبي ينافح عن فكرة آمن بصوابها ، ويدافع عن عقيدة اشرب قلبه حبها ، على أن دارس الأدب ينبغي أن يدرس الأدب لنفسه ، ويبحث جيده ورديئه ، ويتقن غثه وسمينه ،من غير تفاوت ولا تفريق ، بل يعرض ما درس في حيده الناقد البصير ،مستلهما اتجاهات النقد ومدارسه )) .
ومن الدارسين المحدثين من نظر إلى هذه الروايات وتضارب الآراء فيها قائلاً ((الحوادث والنصوص التاريخية تتعرض للتشويه وإساءة الفهم ، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون بقوله :
إن فحول المؤرخين في الاسلام استوعبوا اخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وَهَمَوا فيها أو ابتدعوها ، وزخارف من الروايات المضعفة لفقّوها ، ووضعوها ، واقتفى تلك الآثار ممن بعدهم واتّبعوها……. هنا يظهر ان التشويه الذي يصيب التاريخ يعود الى عاملين هما
التوهمّ : اذ يتوهم بعض المؤرخين ، بشكل غير مقصود ، صحة حدث أو
. رواية أو واقعة فيثبتونها
الابتداع: وهو ارتكاب الخطأ بصورة متعمدة اذ يبتدع المؤرخ أو الكاتب
روايات وأحداثا لغاية في نفسهِ كإرضاء جهة معينة ، أو انتصاراً لأفكاره ومبادئه
أو ما شابه .
: ويرى باحث معاصر أن مشكلات ومعوقات البحث التاريخي العلمي متعددة أهمها
. التأثر بالاسطورة والخرافة وما يعيق عملية الدراسة الموضوعية للتاريخ
.توارث الآراء من الأجداد وعدّها بمثابة المسلمات
شيوع الحدث بين الناس يغلب حقيقته .
. صدور الرأي عن شخصية أو جهة مشهورة يعطيه مناعة أمام البحث والنقد .
الانسياق وراء التعصب بكل أنواعه (علمي، ديني ، سياسي ) …. الخ .) .
ويرى الباحث جلال حسين شريم أن : (( من بين الشخصيات التي تعرضت سيرتها للتشويه والرمي بأقصى التهم وأقذع الأوصاف يأتي الشاعر دعبل بن علي الخزاعي الذي وُصم بأنه شاعر المجون والتهتك ورماه الكثيرون بتهمة الزندقة . وهنا فان محكمة التاريخ تتدخل ، وهي التي تتدخل كلما اختلت الموازين وكثر الجدل حول تقويم شخصية تاريخية . فإن لم ينل شخص جليل القدر عظيم الشأن بين الناس ما هو أهلٌ له ، بل ربما انقلبوا عليه ، رغم صوابية أفكاره وأبداعه ، حتى مات شريداً متهماً ، وربما قتيلاً شهيداً ، كان عزاء الناس بعد موته حين تتبيّن حكمته وسديد رأيه بأن التاريخ قد حكم له )) .
وارى أن بين أيدينا شاعراً عاش قرناً وهو يقول الشعر في شتى الأغراض شهد له بشاعريتهِ شعراء عصره امثال البحتري ومسلم بن الوليد ونقادها أمثال الجاحظ وابن قتيبة والمبرد ، ممن عاصرهم الشاعر وممن تبعه . ولأن الروايات فيها من الشبهات ما فيها حتى على عظماء الأمةِ .فقد نال دعبل من الشبهات ما نال (( كل ذلك من جراء ما كان ينافح ويناطح ويناضل وينازل في الذب عن البيت النبوي الطاهر ، والتجاهر بموالاتهم ، والوقيعة في مناوئيهم ، لا يقر به قرار ، فلا يقله مأمن ولا يظله سقف منتجع ، وما زالت تتقاذف به أجواز الفلا فرقا من خلفاء الوقت ، واعداء العترة الطاهرة ، ومع ذلك كله فقصائده السائرة تلهج بها الركبان ، وتزدان بها الأندية ، وهي مسرات للموالين ، ومحفظات للأعداء ، ومثيرات للعهن والضغائن حتى قتل على ذلك شهيدا)).
وارى أن الباحث العلمي عليه أن لا يعتمد كل الاعتماد على هذه الروايات بل يجعلها سبيلاً لعملهِ والاعتماد على ما يراها اقرب الى الصحة من غيرها على وفق مقاييس البحث الأدبي واضعاً الزمان والمكان نصب عينيه من زمان ومكان الشاعر ، للوصول الى الحقيقة التي يسعى اليها الباحثون . .