ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث، قامة فكرية سامقة، سطع نجمها في سماء القرن الرابع عشر الميلادي، ليضيء دروب العلم والمعرفة، ويضع أسسًا متينة لعلم جديد، هو علم الاجتماع. عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي، مفكر عربي مسلم، مؤرخ وفيلسوف، يعتبره الكثيرون الأب الروحي لعلم الاجتماع الحديث، وذلك لما قدمه من أفكار ورؤى مبتكرة، تجاوزت عصره، ولا تزال تلهم الباحثين والدارسين حتى يومنا هذا.
تتميز شخصية ابن خلدون بالتنوع والعلم الغزير، فهو لم يكن مجرد مؤرخ يسجل الأحداث، بل كان مفكرًا متعمقًا يحلل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويسعى إلى فهم الأسباب الكامنة وراءها. وقد ساعدته تجاربه الحياتية المتنوعة، ورحلاته الكثيرة، ومعرفته الواسعة بالتاريخ والجغرافيا، على تكوين رؤية شاملة ومتكاملة للعالم.
أبرز إنجازات ابن خلدون يتمثل في كتابه “المقدمة”، الذي يعد بمثابة مدخل إلى كتابه الضخم “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. في المقدمة، وضع ابن خلدون أسسًا لعلم جديد، هو علم العمران البشري، الذي يمكن اعتباره النواة الأولى لعلم الاجتماع الحديث.
في علم العمران البشري، تناول ابن خلدون العديد من الموضوعات الهامة، مثل: طبيعة الاجتماع البشري، وأسباب قيام الدول وسقوطها، والعلاقة بين البداوة والحضارة، وأثر البيئة في تشكيل المجتمعات، وأهمية الاقتصاد في استقرار الدول. وقد قدم ابن خلدون تحليلات عميقة ومبتكرة لهذه الموضوعات، مستخدمًا منهجًا علميًا يعتمد على الملاحظة والتجربة والتحليل.
من أهم الأفكار التي طرحها ابن خلدون في المقدمة: نظرية العصبية، التي تفسر قوة الدولة وتماسكها بوجود رابطة قوية بين أفرادها، ونظرية الأطوار، التي تصف دورة حياة الدولة، والتي تمر بأربعة أطوار رئيسة: طور النشأة، طور الاستقرار، طور الترف، طور الانحدار. كما تناول ابن خلدون موضوع التغير الاجتماعي، وأشار إلى أن المجتمعات تتغير باستمرار، وأن هذا التغير يخضع لقوانين وسنن محددة.
لقد كان لابن خلدون تأثير كبير على الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يزال كتابه “المقدمة” يدرس في الجامعات والمعاهد في جميع أنحاء العالم. وقد استلهم العديد من المفكرين والعلماء من أفكار ابن خلدون، وطوروا نظرياته، وأضافوا إليها.
وبالرغم من مرور قرون على وفاة ابن خلدون، إلا أن أفكاره لا تزال ذات صلة بواقعنا المعاصر. فالمشكلات التي تواجهها المجتمعات اليوم، مثل: الصراعات العرقية والدينية، والتفاوت الطبقي، والفساد السياسي، والتدهور البيئي، قد تناولها ابن خلدون في مقدمته، وقدم تحليلات موسعة ومفيدة لفهمها والتعامل معها.
ابن خلدون ليس مجرد مؤرخ أو فيلسوف، بل هو مفكر شامل، قدم إسهامات جليلة في مختلف مجالات المعرفة. وقد استحق بجدارة لقب مؤسس علم الاجتماع الحديث، لما قدمه من أفكار ورؤى مبتكرة، شكلت نقطة تحول في تاريخ الفكر الإنساني.
المراجع:
ابن خلدون، عبد الرحمن. المقدمة.
العلوي، حسين. ابن خلدون: حياته وفكره. بيروت: دار الطليعة، 1984.
الجبوري، يحيى. فلسفة التاريخ عند ابن خلدون. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1990.
عبد النور، عبد العزيز. ابن خلدون: فيلسوف التاريخ والمجتمع. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
Lacoste, Yves. Ibn Khaldun: The Birth of History and the Past of the Third World. Verso, 1984.