إشكالية التسمية في كتاب ( الأيام ) للدكتور طه حسين

م.د. زهراء عبد الحميد غالي
 
    عند النظر إلى تاريخ تلقي(الأيام) لطه حسين، نكتشف أن أهم إشكالية جمالية شغلت النقاد والدارسين ووضعت أوراقهم النقدية عن هذا الخطاب تعلقت بمسألة التجنيس؛ فكانت الحيرة النقدية حاضرة بشدة في تجنيس الأيام بين الرواية والسيرة الذاتية وفي ظني أن السارد (طه حسين) أنجز إبداعية أيامه على وجه التحديد عندما كتب سيرته عن وعي أو غير وعي منه على أسس( روائية السيرة الذاتية)، ومن ثم أجبرنا باختيارنا و صدمتنا الجمالية كمتلقين على أن نحتفي بهذه الجمالية التمويهية التي هدمت أسطورة نقاء الأنواع أو الأجناس في (الأيام )، والتي تعد سيرة ذاتية روائية بدرجة جمالية لافتة من جهة التأسيس في المشهد السردي العربي للعلاقة الرابطة بين السيرة والرواية، وقد عُدَّ هذا الكتاب الأنموذج الأمثل الذي يعكس جنس السيرة الذاتية العربية الحديثة، بحسب المعايير والأسس الغربية، عندما يكتفي الباحث من الناحية الفنية بأولى المحاولات التي تقرب بين الترجمة الذاتية وبين الفن الروائي، والحقيقة أن كتاب( الأيام) أثار كثير من التساؤلات لدى النقاد، خاصة فيما يتعلق بماهية جنسه الأدبي، هل هذا الكتاب هو رواية، أم سيرة ذاتية، أم كتابة تاريخية لأيامه؟ و مرد ذلك إلى اللعبة السردية التي يتبناها طه حسين، والتي تعمل على إخفاء الذات الكاتبة، و ترى ساندي سالم أبو سيف أن الكتاب جاء خالياً من ميثاق السير الذاتي، بل لعله ميثاق ينأى بنا عن السيرة الذاتية، و يدنوا من الكتابة التسجيلية التاريخية، إذ تحيل ( أيام طه حسين ) لفظاً على أيام العرب في ذهن المتلقي، ويعد تأكيد علاقة بين الأطراف الرئيسية الثلاثة التي تؤسس السيرة الذاتية وهذا تماماً ما يجعله يدور في دائرة هذا الجنس، و يعسر تأكيد علاقة التطابق بين الأطراف ( السارد – المؤلف – الشخصية ) إلا عبر معادلة رياضية عسيرة نستنتجها استنتاجاً من الفصل الأخير من الجزء الأول من كتاب ( الأيام)، إذ يرفع السارد قناعاً كاشفاً عن وجهه ليخاطب ابنته، وعندئذ تتحقق المعادلة التالية: ( السارد = المؤلف = الشخصية )، تضيف إلى ذلك كل ما يتعلق بضمير الغائب ليتحول إلى مؤرخ ينقد البيئة ويصفها، ويتحدث عن التعليم في الأزهر وغيرها من المواضيع التي تعم الحياة العامة، وتنأى عن الحياة الشخصية التي تعدها السردية الحديثة حداً من حدود السيرة الذاتية.
    فمن الذين ذهبوا إلى تسمية كتاب (الأيام) سيرة ذاتية محمد الباردي، الذي يعتبر الكتاب النص التأسيسي الأول للسيرة الذاتية في الأدب العربي، ويوافقه الرأي الدكتور إحسان عباس فهو يرى أن لـ( الأيام) في السيرة الذاتية الحديثة مكانة لا تتطاول إليها أي سيرة ذاتية أخرى في أدبنا العربي، وخاصة في الجزء الأول منه مزايا كثيرة منها: تلك الطريقة البارعة في القص والأسلوب الجميل والعاطفة الكامنة في ثناياه المستعلنة أحياناً حتى تطغى على السطح، و تلك اللمسات الفنية في رسم بعض الصور الكاملة للأشخاص، والقدرة على السخرية اللاذعة في ثوب حاد حتى تظهر وكأنها غير مقصودة، ونجد هذا الرأي أيضا عند الدكتور نبيل راغب، فهو يرى أن طه حسين تألق في مجال السيرة الذاتية بكتابه الفريد (الأيام)، وهو فريد؛ لأنه استن فيه سنة لم تتبع من قبل في الأدب العالمي كله للسيرة الذاتية، فبدلاً من أن يستخدم ضمير المتكلم في التعبير عن نفسه كما يفعل كتّاب السيرة الذاتية بحيث يقول الواحد منهم:(( أنا فلان، حدث لي كذا أو فعلت كذا )) نجده يقول عن نفسه:( صاحبنا ) أي أنه انفصل عن ذاته و أحالها إلى شخصية موضوعية مستقلة تتحرك أمامه، وبذلك انضم إلى صفوف القراء كي يتتبع معهم بطله، وإن كان هو البطل، وقد أتاح له هذا المنهج المبتكر القدرة على التخلص من تضخم الذات الذي يقع فيه كثيرون من كتّاب السيرة الذاتية لدرجة أنهم يصلون في بعض الأحيان إلى درجة مبالغ فيها من النرجسية.
  ومنهم من يرى كتاب (الأيام) رواية، ومن هؤلاء ثروت أباظة في كتابه (شعاع من طه حسين) ففيه يذهب إلى أن كتاب (الأيام) رواية بكل ما تقوم به أركان الرواية، مؤكداً ابتعاده الشكلي عن الجنس السيري، ولا يميل لوصفه بـ(السيرة الذاتية) لاسيما وأن مقومات الرواية نافرة من بين ثنايا (الأيام) في الجزأين الأول والثاني منه خاصة ، ويصنف الكتاب خالد الكركي على أنه رواية، يستمد قيمته من موقف بين تيارين وحضارتين، ويعطي هذا العمل طابعاً روائياً أكثر من طابع السرد التاريخي، يضاف إلى ذلك ما في الأيام من صراع حاد بين البطل والقدر وما فيه من صدق، وحيوية، وانسياب، وتشويق تؤدي كلها عبر الأسلوب المميز الموحد، إلى اعتبار(الأيام) عملاً فنياً فيه شروط العمل الفني الناجح من حيث الوحدة، والانسجام، والتناسق، والألق، وأصحاب هذا التوجه يرون فيه رواية على اعتبار الوحدة والترابط بين العناصر السردية.
  ومنهم من جعل كتاب (الأيام) رواية وسيرة في الوقت ذاته، وأبرز النقاد الذين قالوا بتصنيف (الأيام) تصنيفاً يراوح بين السيرة و الرواية هو عبد المحسن طه الذي يؤكد أن  كتاب (الأيام) يلتقي من الناحية الفنية بأولى المحاولات التي تقرب بين الترجمة الذاتية وبين الفن الروائي، والصعوبة تكمن هنا في أن الكاتب لم يقدمه على أنه رواية، لا يفتقر لرابطة داخلية تربط بين أحداثه، ومع ذلك فإن هذه الرابطة لا تكتفي لتجعل منه رواية فنية كاملة فالرابطة الداخلية معيار للحكم على جنس العمل، فلا يمكن القول فيها بأنها تمثل( سيرة ذاتية)، ولا يمكن القول فيها بأنها رواية.
 ولأن طه حسين كاتب متعدد الميول والاتجاهات انعكس هذا في كتابته الفنية فهو روائي، وكاتب ترجمة ذاتية، وباحث يقدم الأحداث تقديما خاصاً ولاسيما في المواقف التي تكشف عن مشاعر الصبي وانفعالاته دون تدخل مباشر منه فيصبح بسبب ذلك أقرب إلى موقف الروائي الذي تكشف صوره الدقة والروعة في نقل الدواخل، ولذلك فإن الرابطة التي تربط بين الصور والمواقف في الكتاب تظل رابطة خارجية، مما يقرب بين الكاتب وبين فن الترجمة الذاتية التي يتبع المؤلف في تقديمها التسلسل الزمني ويقسمها تقسيما يناظر مراحل حياة البطل، وقد أثر موقف طه حسين من كتابه الذي جمع فيه بين الروائي وكاتب الترجمة الذاتية والباحث على اختياره لشخصياته ورسمه لها، وكان طبيعياً؛ نتيجة لما سبق يتأرجح أسلوب المؤلف بين التصوير وهو الطابع الأسلوبي الروائي، والتقرير وهو طابع المقال وأن لا يهتم المؤلف بالحوار كثيراً؛ لأنه قلما يلجأ إليه، وهذه هي طبيعة النص الحائر فهو سيرة و ليس سيرة ورواية وليس رواية مثلما يؤكد دارسوه أو بعضهم على أقل تقدير.

شارك هذا الموضوع: