شاعت افتراضات خاطئة عن طبيعة اللغة بين الناس، عامتهم وخاصتهم على حد سواء، وسنحاول هنا أن نُلقي نظرة موجزة على بعض هذه الافتراضات الخاطئة.
1- الكتابة هي الأصل: الافتراض الأول، ولعله أكثر الافتراضات الخاطئة شيوعا بين المتعلمين، هو الافتراض القائل إن الكتابة هي أصل اللغة وما الكلام إلا تشويه أو تحريف لذلك الأصل، ومنشأ هذا الوهم ما تتمتع به الكتابة من حظوة كبيرة بوصفها واسطة اتصال، ووسيلة تعليميّة.
ولكن الحقائق اللّغوية الموضوعيّة تفنّد هذا الوهم، وتقرر أسبقيّة الكلام المنطوق على الكتابة، فمن الناحية التاريخية ـــ مثلا ـــ لا يتعدى عصر الكتابة بضعة آلاف عام، على حين ترجع اللغة المنطوقة إلى جذور المجتمع البشريّ، وهكذا نذهب إلى أن اللغة الظاهرة هي الكلام من حيث الأصل، وما النظم الكتابيّة إلا تمثيل للغة المنطوقة.
2– وجود رابطة طبيعيّة بين الأسماء والمسمّيات: والافتراض الخاطئ الثاني، ويقع فيه عادة أحاديو اللغة، وأولئك الذين ينحصر اطلاعهم في لغتهم القوميّة فقط، ويقول بوجود رابطة طبيعيّة، أو إلزامية بين الأسماء والمسميات، أو بين الكلمات والمعاني، ونجد تطبيقا لهذا الافتراض الخاطئ بين الجماعات البدائيّة التي تُنزل اللعنة، وتضع الطلاسم السحريّة على اسم شخص ما لإلحاق الضرر والأذى به ظنّا منها أن الاسم والمسمى هما شيء واحد.
إن الحقيقة الموضوعيّة تقرر أن اللغة واسطة اتصال اعتباطية، تواضع الناطقون بها على دلالتها، وليس هناك ارتباط فعليّ، أو منطقيّ بين الشيء واسمه، فالماء ـــ مثلا ـــ يسمى بالانجليزية water، وبالفرنسية de l eau، وبالألمانية wasser، وبالفارسيّة (آب)، ولو كان هناك أي ارتباط حقيقي بين اللفظ، ومعناه لما وجدت هذا التعدد في أسماء المسمّى الواحد.
3- لغات متطورة وأخرى بدائيّة: ويثار هذا الإدعاء كلما دار الحديث عن بعض القبائل في إفريقيا، وأمريكا اللاتينيّة التي يزعم بعضهم بأنها مازالت في المراحل الأولية من تطوّرها الحضاريّ، فإذا اتخذنا المستوى التكنولوجيّ مقياسا للتطور الحضاريّ، فمن الممكن أن القول إن هذه القبيلة أو تلك بدائيّة، من وجهة نظر أنثروبولوجيّة، ولكن هذا القول لا يصدق من الناحية اللغوية، لأنه إذا كان المقصود ببدائية لغة إحدى القبائل هو خلوّها من المفردات الخاصة بالمخترعات الحديثة مثلا، فإن ذلك يرجع إلى عدم تعامل القبيلة مع تلك المخترعات، ومن ثَمّ عدم حاجة لغتها إلى ذلك النوع من المفردات، ولكن إذا استدعى تطوّر القبيلة الاقتصاديّ استيراد تلك المخترعات، فإن لغتها سرعان ما تقوم بسدّ الحاجة عن طريق توليد المفردات اللازمة أو اقتراضها من لغات أخرى.
4- لغات جميلة وأخرى قبيحة: وقد نبّه على هذا الخطأ، وفسّر علّته العلامة الأندلسيّ ابن حزم (المتوفى 456ه) في ردّه على جالينوس الذي قال بأنّ (( لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما تشبه نباح الكلاب، أو نقيق الضفـــــادع ))، فقال ابن حزم: (( وهذا جهل شديد، لأن كل سامع لغة ليست لغته، ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكر جالينوس ولا فرق ))، ولقد صدق ابن حزم، فجمال اللغة قضية نسبيّة مرهونة بأُلفة السامع لتلك اللغة، وفهمه لأصواتها.
5- لغات صعبة وأخرى سهلة: ويتّصل بهذه المسألة توهّم بعضهم وجود لغات صعبة، وأخرى سهلة، فيزعمون ـــ مثلا ـــ أن اللغة الروسيّة أصعب من الفرنسيّة، وهذا وَهمٌ واضح. إذ إن إتقان لغة أجنبية ما يتأتّى للفرد عن طريق المران والممارسة، فما اللغة إلا مهارة تكتسب بالتكرار، والدربة مَثَلَها في ذلك مَثَل العزف على البيان، ولكن إذا طرحنا المران، وطرق التدريس، ودوافع المتعلّم جانبا، فإن الصعوبة الممكنة تنتج من تأثير اللغة الأمّ على اللغة الأجنبية التي نتعلمها، وهذا ما يصطلح عليه بالتداخل اللغويّ، فكلما ازدادت الفروق بين اللغتين ازدادت الصعوبة التي يواجهها الفرد في تعلّم الثانية، وهكذا يصحّ القول بأن الصعوبة تتناسب عكسيا مع التقارب بين اللغة الأمّ، واللغة الأجنبية، فالألماني ـــ مثلا ـــ يجد الانجليزية أسهل من الصينية…