الآخر الموافق المثال عند الشاعر الفاطمي
م.د. فاطمة محسن هبر
      إنَّ استحضار الأنا الشاعرة في العصر الفاطمي للصفات المثالية للمديح، والمتوارثة من القيم العربية وإضافتها إلى الآخر المتوافق مع ذاتها، لرسم صورة مثالية تجعل منه أنموذجاً أو مثالاً أسمى بما يمتلكه من الصفات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية المتناسقة مع  القيم الواقعية السائدة في المجتمع العربي في ذلك العصر، فالمثالي ” صفة للنموذج المكتمل، والقدوة الحسنة، والعمل الذي بلغ الغاية العليا، والإنسان الكامل الصفات، والمترفع عن الترهات ليكون قدوة في أخلاقه، وتفضيله الآخرين على نفسه”، والبحث عن الآخر المثال سواء كان في العالم الواقع أم في الشعر يمكننا أنْ نجد هذا الأنموذج الخالص في شخصيات احتفل بها التاريخ العربي، وجعل منها رمزاً أو معياراً توزن بهِ الشخصيات، وتقيّم سلوكياتهم وأفعالهم بسنتها، وفي هذا النوع من الآخر تقوم العلاقة فيه بين الأنا والآخر على أساس القيمة الإيجابية الحقيقية التي يمثلها الآخر للذات بعيداً عن المطامع والمصالح الآنية والشخصية، وهذه العلاقة تقوم عادةً على معرفة دقيقة وفهم عميق للآخر، وصورة الآخر في هذه العلاقة هي انعكاس لحقيقة الآخر الخارجية، وبتعبير أكثر دقة هي الصورة التي تعكسها مرآة الذات لحقيقة الآخر الخارجية، وأهم مثال جعل منه الشعراء الفاطميين مثالاً متفرداً في الصفات المثالية هو الرسول (صلى الله عليه وأله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)، فقد استمدوا من سيرة شخصيتهم الجليلة المعاني الدالة على الشجاعة والبطولة والإقدام والدفاع عن الحق، والمثل السامية، والقيم النبيلة، والآخر المثال هنا لا يمكن أن تتجسد الصفات المثالية فيه مجتمعه؛ لأنها صفات مثالية مستمدة من الموروث الثقافي تلقيها الأنا الشعرية على الآخر، وتسمُها بميسمها لمصالح خاصة تمثل أنساقاً نصية، على حين أنّ هذه الصفات يتصف بها النبي وأهل بيته (عليهم السلام) في الواقع الخارجي، وفي النسق النصي، فصارت قصائدهم مسرحاً لتلك المعاني، وغدت مادة روحية تنتعش منها النفس الإنسانية ولاءً وتقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، فكانت سيرة حياتهم المثال والقدوة الأسمى التي تخلّدت عبرها كلّ الصفات المثالية فيهم (عليهم السلام)، ومن الصفات التي عبر عنها الشعراء عن ولائهم لهذا النموذج المثالي هي الكرم، منها قول تميم بن المعز: (مجزوء الكامل)
        فِــي   كَـرْبَــلَاءَ   يجُــــودُ   بالنـــــ        ــفسِ   المعطَّشةِ   الصَدِيّهْ
 حــتّــى   انْـثـَنـــى   لسيــــوفِـــهــــِـــمْ       وسِهَــامِهِـــم   فــيـها   دَريَّـهْ
    إنَّ النفس التي يحملها الآخر ليست كأي نفس؛ إنَّها نفس مثالية مقدسة، فعندما تكرم أو تهب لا يمكن أن تجود بأقل ما أجادت به وهو النفس والتضحية بها في سبيل الله، وإعلاء راية الحق، فقد قدم الآخر/ الإمام الحسين (عليه السلام) للأمة درساً خالداً واضح المعالم في هذا الجانب لم يقدمه أحد قبله ولا بعده، وهذا أضاف إليه منزلة فوق منزلته، فقد أصبح مثالاً أعلى لا يستطيع أحد أن يصل إلى مرتبتهِ، فالعظمة التي تحملها ذات الآخر لم تكن مجرد الكرم بالنفس بل الجود بكلِّ ما تملك، وطريقة التضحية بها، والهدف من ذلك الكرم البعيد كل البعد عن المنافع  الدنيوية، فقد جمعت الذات الشاعرة كلّ الوسائل النفسية والفنية لوصف ذلك الموقف السامي؛ لذا عُدّ في نظرهِ مثالاً سامياً جمع كلَّ الفضائل الدالة على هذه الصفة، وأظهرها بهذه الصورة الجليلة الحيّة.                                                    
 
 

شارك هذا الموضوع: