الأنا المتعالية عند الشاعر الفاطمي
م.د. فاطمة محسن هبر
        إنَّ إشعار الفرد بالاختلاف في موقف معين قد يثير لديه شعوراً بالغيرة، وهنا تنبثق الذات الشاعرة بلغة التمرد، معبرة عن ذاتها بطابع يسلط الضوء على تصاعد الغرور وتقلص فرص التواصل مع الآخرين، وكلما ازداد الرفض المجتمعي للفرد، ازدادت الأنا تمسكًا بذاتها، مما يؤدي إلى خلق حاجز نفسي بين الفرد والمجتمع، ويتجلى ذلك في رفض مزدوج؛ رفض المجتمع للفرد ورفض الفرد للمجتمع، إذ يُعرف هذا السلوك بأنه “انعزالي أو ذاتي، إذ تتسلط الأنا على تعزيز وجودها بتكبيرها ومنحها صفات الديمومة لتشغل مساحة مهمة تتمحور في إثبات كيانها، وقد عُرفت بأنا متعالية أو أحادية؛ لأنها تنهض في أفق وعي الذات الخالص بالذات؛ وعي الأنا الفردية أو الجماعية بإمكانية التفرد؛ أي بإمكانية تفريد علاقاتها بموجودات العالم”، وهذا التعالي في الديناميات النفسية محاولة لا شعورية تقوم بها الأنا عبر تضخيمها لذاتها، وإسباغ صفات العظمة عليها لإخفائها الشعور بالنقص.
       وتتخذ الأنا في تعاليها اتجاهات مختلفة؛ فمنها ما يكون سياسياً، وهو ما نجده عند تميم الفاطمي الذي وضع نفسه الموضع الصحيح الذي طمح إليه، فلعلَّ هذا يشعره بنوع من الاستقرار النفسي الذي طالما فقده، وها هو ذاته نراه يفرض سلطته في موضع آخر: (الكامل)                                                                                   
هِمَمِي أنَافَتْ بِي عـــَــــــلَى الهِمَمِ         قَبـــــْلَ  الفِطَــام  ومَبْلـــغْ الحُلُــمِ
وَسَــمـَــا بقَـــــدْري فِـــيْ العُــلا أَدَبِـــــي        حَتـــَى  وطِئــتُ  كَواكِبَ  الظّـلَــمِ
تُثْنـــي  عَلَـــيَّ  إذا  سَكَـــتُّ  يــــــَدِي        بِسَمَـاحِهـَـا وتُضـــئ لِـــيْ شِيمي
وإذَا  الــــكِرامُ  جَفَــــــــوْا   تَكَّرمَهـــــــمْ        لـَــــؤماً  فإِنّي  عـَـاشِـــقٌ  كَرَمِي
فــيْ  كـُـلّ  صَــالِحةٍ مَـــدَدتُ يــــَدِي        ولـــكلِّ مَكـــرُمـــــةٍ سَعَتْ  قَدَمِي
وأَقـَـلُّ  مــَا  أدْرِيـــــهْ   مِـــنْ  زَمَنـِــي        رَفْعُ  الجَهُولِ  وسَقْطةُ  الفَهِمِ
فأسألْ  خُــطوبَ الدّهر عنْ  جَلَدي        وَغَوامِضَ الأشْياء عنْ  فَهَمِي
     هـــلْ شُــمُّ  أطــواد ِ الـجـبــالِ  سِوَى         حِلْمِي وهل عَضْبٌ سِوى كَلمِي
والمَجـــــدُ فَرعٌ  أصـــــــلُهُ   كَرَمي           والدّهرُ  رُمْحٌ   سِـــــــنُّه   قَلَمي
   والشّمسُ منْ  عِرْضي  تَلأْلؤُهـــا          بسَناه   والأيّامُ  مِنْ  خَدَمِــــــي
     إنَّ قدرات تميم الأدبية ونبوغه الشعري دفع به إلى الاعتزاز الكبير بنفسه، والسمو بها إلى المعالي، فضلاً عن ثقته بقدراتهِ السياسية ومنزلته الاجتماعية حملت ذاته إلى موازاة من مدحه، بل يضيف عليها صفات ترفع من منزلته ما يفوق بها أخاه ووالدهُ، فما الآخر بالنسبة إليهِ إلاّ مناسبة لإظهار الأنا، وجعل من المظلومية التي لحقت به محفزاً يدفعه إلى تحدي الآخرين عبر إبراز أناه والفخر بها، ما يجعله يلح بإصرار على تأكيد مناقبهِ الذاتية البعيدة عن الفخر بالأنساب والأحساب، فقد وجد لنفسهِ منحى جديداً لتأكيد أناه يتمثل في التغني بمقدرته الشعرية، وموهبتهِ الأدبية الفذة؛ إذْ ” تتحصن الذات حول مركزها الذي يُعدُّ سر وجودها، وجوهر استمراريتها تؤكده ويؤكدها، تحميه وتحتمي به، وكثيراً ما تلجأ الذات إلى تفخيم مزاياها ولو على حساب بخس الآخر، فما دام الدفاع عن النفس مبدأ مشروعاً، فكل أسلحته مشروعة مبررة “، حتى إننا نراه ينسب كلَّ مفخرة إلى نفسهِ عبر استعمالهِ (ياء) المتكلم على طول النص (قدري، أدبي، شيمي، قدمي، كرمي، قلمي، عرضي، خدمي)، فضلاً عن تاء الفاعل (وطئتُ، مددتُ، عظمتُ)، وقد علق الدكتور تامر عارف على هذه الأبيات، قائلاً: ” إنَّ مركزه وأدبه سما بهِ حتى داس على الكوكب، فهو عندما يسكت تتكلم يده بكرمها، وتضيء له مكارمه، كما أنه لم يخشَ في حياته حدوث مكروه، والليث عادة لا يخشى من النعامة، وينتهي إلى القول بأن كل هذا المجد وصل إليه عن طريق الوراثة”، ولعل ذلك يرجع إلى الناحية النفسية واحساس الشاعر بالنقص أثر تفضيل أخيه عليه من قبل والده حتى بلغت الأنا لديه حد النرجسية تعويضاً عن ذلك النقص النفسي، فالشاعر تحدى كل العوائق الخارجية والنفسية، ليبني ذاته عبر أسلوب التعاطف مع نفسه ليؤكد شعورهِ بعظمة نفسهِ والقدرة على إثباتها وهذا الشعور بالألم، وذلك الإحساس باللوعة كلها عوامل فجّرت الينابيع الشعرية الراكدة في أعماق تميم وأحالتها إلى أنغام عاطفية رقيقة، وألحان عذبة فياضة تسكر الروح وتخدر المشاعر، حتى تصل إلى درجة الإيغال في بعض نصوصهِ.
 

شارك هذا الموضوع: