الأندلس في عيون الأوربيين
أ.د. عباس التميمي
لا شک في الأهمية البالغة التي تمثلها الحضارة الإسلامية في تاريخ الأندلس وفي التاريخ الحضاري لأوروبا بشکل عام. حيث دخلت الحضارة الإسلامية بلاد الأندلس وعاشت هناک تسعة قرون کاملة؛ استطاعت خلالها أن تنشر نور العلم في کل أوروبا، وصارت الأندلس بكاملها مدرسة للعلم والفکر والثقافة نهل منها الأوروبيون.
مرت على الحضارة العربية الإسلامية العديد من الفترات الهامة التي سطع فيها نجمها بين سائر الأمم والحضارات الأخرى، فقد كان العرب والمسلمون متميزون من وجوه عدة لا حصر لها، وكانت أمتهم أمة راقية ذات طابع خاص، ومن هنا فإنّ أياديهم البيضاء، وآثارهم العظيمة لا تزال موجودة حتى يومنا هذا، فقد أسس العرب والمسلمون لنهضة حقيقية عالمية شاملة استفادت منها الحضارات الأخرى، وعلى رأسها الحضارة الغربية. ومن أبرز المحطات العظيمة في التاريخ العربي الإسلامي محطة الأندلس، حيث استطاع الأسلاف تأسيس حضارة عظيمة امتدت على مدى قرون طوال، تركت العديد من المظاهر لهذه الحضارة. مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس المجتمع المتسامح ضم المجتمع الأندلسي العديد من الفئات المجتمعية المختلفة، والديانات المتعددة، والتي استطاعت أن تتآلف فيما بينها، وتتجمع لتحقيق مصلحتها العليا، فكانت بذلك مضرباً للمثل في التسامح، والتعايش المشترك المبني على المودة، والاحترام، والتراحم. ازدهار العلوم والثقافة والفنون من أبرز ما يميز حضارة العرب والمسلمين في الأندلس ذلك الولع الشديد بالعلوم، والنواحي الثقافية، حيث استطاع العرب هناك إنشاء العديد من المدارس، والأماكن الثقافية المختلفة وعلى رأسها المكتبات، إلى جانب ذلك فقد اهتم العرب والمسلمون بإثراء حركة الترجمة، وذلك من خلال إقبالهم الشديد على ترجمة الكتب من شتى أنواع الحقول والمعارف، ومن ناحية أخرى، فقد اهتم أسلافنا في الأندلس بدراسة العلوم المختلفة، كالرياضيات، والعلوم الطبيعية، والطب، والكيمياء، والفلسفة، والدين، وما إلى ذلك من حقول العلم والمعرفة، حتّى برز من الأندلس العديد من العلماء والمفكرين الذين لا تزال أسماؤهم ساطعة حتّى يومنا هذا كلٌّ في حقله، ومجال شهرته. الازدهار الاقتصادي ازدهرت القطاعات الاقتصادية بشكلٍ كبير خلال فترة الوجود العربي الإسلامي في أرض الأندلس، وعلى رأس هذه القطاعات: قطاعي التجارة، والصناعة، حيث كان الأندلسيون في ذلك الوقت يصدرون أنواع المنتجات المختلفة، كمنتجات مصانع الأسلحة، والمناجم، والمنسوجات، إلى جانب ذلك فقد ازدهر أيضاً قطاع الزراعة في أرض الأندلس، خاصة زراعة بعض أنواع المحاصيل، كالأرز، والموز، والقطن، وقصب السكر. وقد ضمَّت أرض الأندلس الموانئ البحرية المختلفة التي استطاعت ربط هذه الأرض العظيمة، بالعديد من مناطق العالم في ذلك الوقت. الازدهار العمراني من أبرز مقومات المدن الأندلسية خلال فترة الوجود الإسلامي فيها، ازدهار حركة العمران، ممّا جعل المدن الأندلسية مقصداً هاماً لكافة الناس الذين كانوا يتوافدون إليها بشكل مستمر؛ لاحتوائها على العديد من المرافق الحيوية، والخدمات الهامة، ومن هنا فقد ضمت المدن الأندلسية الفنادق، والمساجد، والمشاتي، والمستشفيات، والطرق المعبدة، والجسور، والبيوت الرائعة، والقصور الفخمة، والحدائق الغنَّاء، ولا تزال أطلال العرب والمسلمين الأندلسيين ماثلة حتّى يومنا هذا، تستقطب أعداداً كبيرة من السياح من شتى بقاع العالم.
وشهد شاهد من أهلها من خلال اعترافات من دخل الأندلس من الأوربيين جاء عنهم فيها : حين وقف الرسام الفرنسي “هنري رينيو” منبهراً أمام قصر الحمراء في سنة 1869 قال :
“مقارنة بالفنان الذي صنع هذا، نحن برابرة أوباش متوحشون”.
ويقول الكاتب الأمريكي “أرنست همنغواي”:
“اذا كان مقدّر لك زيارة مدينة واحدة فقط فى إسبانيا فيجب أن تكون غرناطة”.
واليوم يقال في إسبانيا:
“إذا لم تسافر إلى غرناطة، فلم ترى شيئًا”…
“Si no has ido a Granada
و no has visto nada”وعندما يتحدث الناس عن غرناطة
وسحرها، فهم لا يتحدثون عن غرناطة الإسبانية بل غرناطة الأندلسية المذهلة الساطعة.
عندما تتساءل عن #غرناطة ستجد أن أهل الأندلس جلبوا المياه من الجبال مستخدمين القنوات والأنفاق، فأخصبو السهول وغيروا شكل التلال، وحولوا المنطقة إلى واحدة من أجمل بقاع العالم.
الأندلس هي الإقليم الذي كتب عنه شاتوبريان وتيوفيل جوتييه وبروسبر مريميه من أدباء اللغة الفرنسية، وبايرون وأولدس هكسلي وسومرست موم وكنيث تاينان من الأدباء الإنجليز، وواشنتون إرفنج ومارك توين وجون دوس باسوس من الأدباء الأميركيين، وكازانتزاكس من جزيرة كريت اليونانية، هذا إلى جانب أدباء اللغة الإسبانية: سرفنتس مؤلف «دون كيشوت» والشعراء جونجورا وأنطونيو ماتشادو وخوان رامون خمنيث ولوركا. ومع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية في 1936 غدت الأندلس نقطة جذب لأدباء حاربوا مع الجنرال فرانكو أو ضده مثل همنغواي صاحب رواية «لمن تدق الأجراس».
ويوضح المؤلفان في مقدمة الكتاب كيف أن الأندلس تحمل بصمات الأقوام الذين تعاقبوا عليها أو احتكوا بها: الإغريق والرومان والفينيقيون والقوط الغربيون والمسلمون المغاربة والمسيحيون، وينوهان بتنوعها الجغرافي ما بين أراض خصبة وحدائق غناء وشريط ساحلي وجبال عالية ومستنقعات ومسطحات جديبة وأنهار مما ولد حالات نفسية مختلفة لدى من كتبوا عنها.
أولى المدن التي يتوقف عندها المؤلفان هي إشبيلية عاصمة الأندلس. لقد زارها الشاعر الفرنسي نصير الرومانسية تيوفيل جوتييه (1811 – 1872). وفي كتابه المسمى «رحلة إلى إسبانيا» كتب عن كاتدرائيتها المقامة على الطراز المعماري القوطي، وهي كاتدرائية فسيحة لا يفوقها في الاتساع سوى كنيسة القديس بولس في لندن وكنيسة القديس بطرس في روما. وذهب جوتييه إلى أن كنيسة نوتردام في باريس لا تعدو أن تكون لعبة ضئيلة إذا قورنت بكاتدرائية إشبيلية.
ومن الأدباء الذين اتخذوا من إشبيلية مسرحا لأعمالهم (إلى جانب بومارشيه صاحب «حلاق أشبيلية») الروائي والكاتب المسرحي الإنجليزي سومرست موم (1874 – 1965)، لقد زارها في 1897 وأقام بها عدة أشهر وسجل انطباعاته عن البلاد في كتابه المسمى «أرض العذراء المباركة»، كذلك أخرج كتابا عنوانه «دون فرناندو» عن الكتاب والمصورين الإسبان الذين استوحوا إسبانيا في كتاباتهم ولوحاتهم خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أقام موم في بيت نائب القنصل البريطاني وهو لا يبعد كثيرا عن شارع أقام به الشاعر بايرون عند زيارته لإسبانيا في مطلع القرن التاسع عشر (وصف بايرون في قصيدته «دون جوان» 1819 إشبيلية بأنها «مدينة بهيجة مشهورة ببرتقالها ونسائها من لم يرها جدير بالرثاء»). وخلال ثمانية أشهر تمكن موم من أن يضع كتاب «أرض العذراء المباركة» إلى جانب أربع أقاصيص ورواية. وفي 1934 أعاد موم زيارة إشبيلية مع صديق له وأخرج كتاب «دون فرناندو» وفيه ركز اهتمامه على تاريخ المدينة وأدبها وخص بالعناية الكاتبين المسرحيين الإسبانيين كالدرون ولوبي دي بجا. ودون فرناندو اسم صاحب مشرب كان يحمل على جدرانه تذكارات من التاريخ الأندلسي. ورغم أن موم كان مزاجيا متحفظا يعاني من اللعثمة في الكلام فقد تمكن من التأقلم مع الجو المحيط به والتواصل مع الآخرين بالإنجليزية والإسبانية.
بقعة أخرى استهوت عددا من الأدباء هي ميناء قاديس في جنوب غربي إسبانيا وهو يكاد يكون جزيرة يربطها ببقية إسبانيا شريط رملي. كانت قاديس مسرحا لمعركة بحرية أغرق فيها القبطان الإنجليزي السير فرانسيس دريك ألارمادا أسطول ملك إسبانيا فيليب الثاني في 1588. هنا يقع مضيق جبل طارق (أعمدة هرقل كما كان يسميه الأقدمون) الذي زاره الأديب الأميركي الفكه مارك توين (1835 – 1910) وكتب عنه كتابه المسمى «أبرياء في الخارج» وهو من أدب الرحلات. إننا معه نرى العالم القديم (أوروبا) من منظور العالم الجديد (أميركا). كان جبل طارق في نظر توين وعاء انصهار للأجناس الأفريقية والأوروبية (وهو في هذا يشبه بلده أميركا) ولكنه لم يقتصر على وصف الإسبان وحدهم وإنما اهتم بدرجة مساوية بمواطنيه الأميركيين («الأبرياء في الخارج») رفاق السفر على السفينة التي أقلته في 1867 من ميناء نيويورك إلى جبل طارق.
وينتهي كتاب أندرو وسوزان إدواردز بتعريفات موجزة بحياة الأدباء الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وجدول بأهم الأحداث التاريخية في تاريخ الأندلس ابتداء من عام 1100 ق. م تقريبا حين أنشأ الفينيقيون ميناء قاديس إلى عام 2014 حين تنازل الملك خوان كارلوس عن العرش لابنه فيليب، وببليوغرافيا مختارة بالإنجليزية والإسبانية تضم كتبا في تاريخ الأدب الإسباني وكتابات الرحالة والمسافرين ودراسات عن كتاب أفراد وعن الأقطار الملاصقة لإسبانيا مثل البرتغال.
والكتاب محلى بصور فوتوغرافية منها صور الجسر الجديد في بلدة رنده، وتمثال الأديب هانزكرستيان آندرسن في ملقا، والمسكن الصيفي لأسرة لوركا في غرناطة، وبهو السباع في قصر الحمراء بغرناطة، وتمثال الشاعر خمنيث وحماره بلاتيرو في بلدة موغوير مسقط رأس الشاعر.
ويمكن القول إن هذا الكتاب – في كلمة – دراسة في «عبقرية المكان» واستكشاف للفضاءات التي يتحرك فيها تاريخ الإنسان الِأوروبي والعربي بكل إنجازاته وإخفاقاته وآماله ومخاوفه وحكمته وحماقاته. لقد وضع الأدباء الذين يتحدث عنهم أندرو وسوزان إدواردز هنا الأندلس على خريطة الأدب العالمي جنبا إلى جنب مع روما جوفينال ولندن ديكنز وسانت بطرسبرج دوستويفسكي وباريس إميل زولا ومقاطعة دورست عند توماس هاردى ودبلن جويس وهند أ. م. فورستر وجنوب فوكنر الأميركي وإسكندرية كافافى ودريل وإدوار الخراط وحواري قاهرة نجيب محفوظ.