الإبداع الشعري
بين الشاعر والنّاقد
د. علي حاكم الكريطي
للعرب في صنعتهم للشعر آراء في البحث عن أسبابه ، وماهيته ودوافع ابداعه ، وكان لهم الكثير من الآراء حول تعريفه ، ومقاييس الاجادة في ابداعه ، ووقْعِهِ على المتلقين.
أولاً : الشعراء : ذهب كثيرٌ من الشعراء الى تفسير العملية الشعرية ، بأنّ شياطيناً أو رئياً أو جنّاً يُلهمونهم الشعرَ ، ونعلمُ أنّ الشعراء هم ألصقُ الناس بالعملية الشعرية ، لكن العقل يأبى أن يُسلّمَ بهذا السبب ، إذ رُبما أراد هؤلاء الشعراء أن يضيفوا لأنفسهم شأناً آخر غير مزيّة الشعر ، أو ربّما لم يجدوا السبب المناسب في أنفسهم لتوضيح أُسس ابداعهم ، فذهبوا للغيبيات كما هو شأن كثير من الناس على مرّ العصور ، فالأمم السّابقة كانت تنسبُ للغيب كل شيء لا يستطيع عقلهم تفسيره ، فكان عندهم للبرق إله ، وللحرب إله ، وللخصب والنماء إله ، وللجمال إله ، وغيرهم كثير.
ثانياً : النقّاد : لقد نشأ النقد العربيُّ وهو ينظر الى اللغة ، لأن اللغة مادة الفن الأدبي، وإذا كان نبوغ الشاعر في استخدامه للغة والتعامل معها ، على الناقد أن يُولي هذه الأداة عنايته ، كون اللغة هي الحقيقة الأولى للشعر ، وكما قلنا سابقاً إنّ اللغة نتاج الجماعة ، وهذا المجتمع يحمي معتقداته وما يتواضع عليه من تقاليد وعادات سلوكية ، فالمجتمع يرعى النظام اللغوي ويستنكر الأخطاء التي يقع فيها الناس في لغتهم ، غير أنّ الذي يحدثُ في الحياة العملية ، لا يصح في الفنِّ والأدب .
وممّن عُرف باقامة علاقات غير مألوفة بين الألفاظ أبو تمام ، الذي ابتعد عمّا ألفه الناس ، فنُقِدَ من الذين لا يبيحون للأديب حرية التركيب اللغوي . قال أبو تمام :
رقيق حواشي الحلم لو أنَّ حلمه بكفّيك ما ماريت في أنه بُردُ
فعِيبَ عليه ذلك، لأنه خرج بخياله إلى أبعد ممّا تواضعوا عليه .
ومن جانب آخر ، كانَ النُّقاد أكثر واقعية من الشعراء في تفسير عملية الابداع الشعري ، إذ تركوا الغيبيات ، وذهبوا الى عدّة أمور تمكّن الشاعر من الفحولة . فهذا الجاحظ (ت255هـ) يُعرّف الشعر بأنّه : (( الشعر صناعة،وضرب من النّسج، وجنس من التّصوير))() ، فالصّناعة تُبعد تفسير وجود الشعر عن دائرة الغيب ، أما التصوير فهو إعادة خلق الأشياء بلغة أخرى تبتعد عن المعيارية. والصّناعة إنما هي إيمان من الجاحظ بملكة الشعراء ابتداءً ، لكنّها غير كافية لذلك ، ما لم تُصحب بإعمال الذهن ، وتكوين الثقافة اللازمة لذلك.
