الاخر في شعر الأبيوردي

الآخر : هو الغير سواء كان الخصم الذي اصطدم به مع الذات وكان معادياً لها متمرداً عليها ، أو كان صديقاً تعاطف معها وانجذب نحوها ، والآخر في شعر الأبيوردي أما ممدوحاً له حضورٌ طاغٍ في الصور الشعرية التي جسّدت مزاياه وصفاته ، أو خصم مهجو حاول الشاعر في التعبير عنه أن يبّرز عيوبه في مقابل إظهار الفرق بينه وبين الذات الشاعرة لغرض شخصي يومئ إليه الشاعر ، أو مرثيّ حاضر في فؤاد الشاعر غائب عن واقعه .
والمدح يكون بمنزلتين ، منزلة أعلى رتبة من الشاعر كالحاكم والوزير والأمير … الخ ، ومنزلة موازية لمنزلة الشاعر ، مثل اصدقائه وابيه واقربائه .
وشخصية الممدوح متفردة عن غيرها بصفات يراها الشاعر حاضرة حضوراً ملفتاً ، واداته في إبراز ذلك هي اللغة الشعرية ، فمثلاً يمدح نظام الملك قائلا :
للهِ دّركَ مِنْ مدبّر دولةٍ
                  وجدتهْ خيرَ مُؤازرٍ ومُعينِ
 
يُلقي بعقوتها ذراعي ضيغمٍ
                  أدمى شبا الأنيابِ دونَ عرينِ
 
ويحوطها بيراعهِ وحُسامهِ
                  مُتدفقين بنائلٍ ومنونِ
 
وصحت مناقبهُ ، فليس بُمدّعِ
                  شرفاً ، ولا في مجده بظنينِ
 
واستأنفَ الفُضلاءُ في أيامهِ
                  عِزاً فلم يتضاءلوا للهُونِ
 
فالممودح هنا حاضر بتدبيره القياديّ ، فهو عون ومؤازر ، يشبهه بالضيغم دون عرين ، كما هو حاضر بمناقبه وشرفه ومجده ، غاب في أيامه الذل والهوان ؛ ولذلك استأنف الفضلاء في أيامه عزهم ولم يتضاءلوا أو يهونوا .
جسّد الشاعر هنا حضور الممدوح الأزلي من خلال سجاياه وصفاته ، ساعده في هذا التجسيد تصويره اللغوي المتقن .
وفي مدحه لسيف الدولة صدقة بن منصور الاسدي يبالغ في إثبات حضور الممدوح وقيمه وقوته ، فيشكل صوراً للرمز العربي المثال ؛ إذ يتميز في مدحه للعربي عن مدحه للأعجمي ، قال :
دعاني إليها مِنْ خُزيمة ماجدٌ
                  يزرُّ على ابنِ الغابِ بُرديهِ عَدنانُ
 
كثيرٌ إليه النّاظرون إذا بدا
                  قليلٌ له في حومةِ الحربِ أقرانُ
 
رزينُ حصاة الحلمِ لا يستزلهُ
                  مُدامٌ ولا تفشي لهُ السِّرَّ ألحانُ
 
إذا رنَّحته هزّةُ المدحِ أخضلتْ
                  سجالُ أياديهِ وللحمدِ أثمانُ
 
تُروِّي غليلَ المُرهفاتِ يمينهُ
                  إذا التثمتْ في الروع بالنّقعِ فُرسانُ
 
ومُلتهباتٍ بالوميضٍ يُزيرها
                  موارد يهديها إليهنَّ خِرْصانُ
 
تحومُ على اللّبّاتِ حتّى كأنَّها
                  إذا أُشرعتْ للطعّن فيهنّ أشطانُ
 
بيومٍ ترى الرّايات فيه كأنّها
                  اذا ساورتها خطرةً الرِّيح عقبانُ
 
اذا ما اعتزى طارت إلى الجُرد غلمةٌ
                  نماهُم إلى العلياء جلدٍ وريّانُ
 
سألتهمُ مَنْ خيرُ سعدٍ بن مالكٍ
                  إذا افتخرت في ندوةِ الحيّ دُودانُ
 
فقالوا بسيفِ الدَّولةِ ابن بهائها
                  تُناضحُ عدنانٌ إذا جاش قَحطانُ
 
الرمز العربي المثال حاضر في الابيات بتفاصيل أكثر ، أحب الشاعر أن يبتعد بها عن المعاني المستهلكة بصورة إيحائية غير مباشرة ، فالممدوح حاضر بإقدامه في حومة الحرب ، مع طلعة بهية يكثرُ الناظرون إليها ، وحاضر برزانته وحلمه لا يُذهب وقاره طعام ولا غناء .
وما أراد الشاعر تغييبه هي الصفات المضادة التي يتجلى بها غير الممدوح من أصحاب المقامات . ويحضر الشاعر في النص المدحي أيضاً في التعريض بمسألة المدح والهبات ، وفي البيت القائل :
إذا رنحته هزّةُ المدحِ أخضلتْ
                  سجالُ أياديه وللحمدِ أثمانُ
 
فالشاعر برعَ في استعمال الفنون البلاغية المؤثرة في المتلقي لينجح في إثبات حضور الممدوح ، كما برع في تضمين هدف الشاعر في العطاء والنوال ، وهو حضور آخر للذات الشاعرة .
وفيما يخص المنزلة الاخرى للمدح وهي المنزلة الموازية لمنزلة الشاعر ، فقد مدح الشاعر أباه مثلاً ، وبالغ في مدحه واجاد ، والممدوح هذه المرة حاضر في وجدان الشاعر قبل أن يكون حاضراً بمزاياه ، إذ قال :
وأناملٍ كَفَلتْ بصوبي نائلٍ
                  ودمٍ بأطرافٍ الرّماحِ نَزيفِ
 
يابن الأكارمِ دعوةً تفترُّ عنْ
                  أملٍ بأنديةِ المُلوكِ مُطيفِ
 
وعدتنيَ الأيَامُ عنكَ بُرتبةٍ
                  ووفورِ حظٍّ مِنْكَ غيرَ طَفيفِ
 
نلاحظ في جميع الاغراض الشعرية التي طرقها الشاعر ثمة موازنة بين حضور المخاطب ، وحضور الذات الشاعرة . تلك الجدلية واضحة بيّنة في نصوصه الشعرية يحاول الشاعر فيها ان يوجه ابداعه الشعري صوب هدف ما ، لكن طغيان حضور الذات معنوياً ونفسياً آلى أن تحضر شعرياً ، كما في هذا النص وغيره ، فالشاعر يمدح أباه فينجح في تجسيد حضوره وتغييب مَنْ سواه ، لكنَّه يعود فيحضر شاعراً منتظراً الأيام     ما وعدته :
وعدتني الأيّامُ عنكَ بُرتبةٍ
                  ووفورِ حظٍّ مِنْكَ غيرَ طفيفِ
 
والعَبدُ مُنتظرٌ وهنّ مواطلٌ
                  ومن العناءِ إطالةُ التَّسويفِ
 
وحين يكون الآخر خصيماً مهجواً ، والمهجوين في شعر الأبيوردي هم اولئك الذين تولّوا ما لا يستحقونه من المناصب ، فحضورهم غياب ، غياب عن قناعة الشاعر ، وغياب آخر عن منفعة الرعية . يحاول الشاعر تغييبهم شعراً بإسقاط قدراتهم ، وإسقاط تصاريف الدهر التي مكنتهم من الحصول على ما لا يليق بهم . قال :
بُلينا بقومٍ يَدّعون رئاسةً
                  لها طُرُقٌ يعيى عليهم سُلوكها
 
فتبّاً لدهرٍ قدّمتهم صُروفُهُ
                  وما خيرُ دُنيا هولاءِ مُلوكا
 
كان يطمح ان تنصفه صروف الزمان ، التي غيّبته وهو حاضر ، فيومئ الى ذلك في هجائه لمَنْ ساسوا البلاد بغير دراية وعلم ، فالشاعر هنا له حضور انتفاضي واضح .
ومثل ذلك قوله يعرّض بقوم قدمهم الزمان لثرائهم :
أرقنا وأسرابُ النُّجوم هُجوعُ
                  نُعالجُ همّاً أصمرتهُ ضُلوعُ
 
ونُعرضُ عن بيضٍ تديرُ ورائنا
                  عُيون مها فيها دمٌ ودمُوعُ
 
وننهضُ للعلياءِ والجدُّ عاثرٌ
                  ونحنُ بمُستنِّ الهَوان وقُوعُ
 
وهل ترفعُ الأيامُ إلا عصابةً
                  عَفَتْ بهم للمُكرمات ربُوعُ
 
لهُم ثروةٌ يمتد في اللُّؤم باعُها
                  حواها نعامٌ في النّعيمِ رتوعُ
 
إذا شبعوا باتوا نياماً وجارهُمْ
                  يُصارمُ جفنيهِ الكرى ويجُوعُ
 
شَكتْ عُقبَ المسرى مطايا تُؤمّهمْ
                  وتذرعُ أجوازَ الفلا وتبوعُ
 
فلا زلن حسرى لم حملنَ إليهمُ
                  فتىً لا يُناغي ناظريه خُشوعُ
 
وهُم نفضُ الآفاق قد خُبثتْ لهُم
                  أصولٌ فما طابتْ لهُنَّ فُروعُ
 
إذا زار مغناهم كريمٌ فما لهُ
                  إليهم إذا حُمَّ الفراقُ رُجوعُ
 
للشاعر في هذه الابيات رؤية شعرية وشعورية تخص المهجوين ، فهم حاضرون وفق موازنة غير عادلة ، تلك التي ترفع أناساً ، وتذل آخرين :
وهل ترفع الايام الا عصابة … الخ
وفي الطرف الآخر من تلك الموازنة غياب لمَنْ يستحق الحضور . حاول الشاعر تغييبهم إنسانياً ، فثرواتهم لئيمة المنحى ، فهم يشبعون وجارهم جائع ، وينامون وهو يصارع الكرى ، اصولهم خبيثة وفروعهم لم تَطبْ يوماً ، يزورهم الكريم فلا يعاود ذلك .
وأشدُّ ما يكون هو الضرب بلغة من حديد ، إذ ينتقد الشاعر الاوضاع السياسية القائمة ، كقوله في هجاء وزير :
مضى زمنٌ كُنت الذُّنابى لأهلهِ
                  وفُزت بنُعمى نشَّ عنكَ غديرهُا
 
نعم وقد استوزتَ جهلاً فما الذّي
                  يُرامُ من الدُّنيا وأنتَ وزيرُها
 
فلا خطرٌ يابن اللّئامِ لدولةٍ
                  وأنتَ على رغمِ المعالي خطيرُها
 
كل ذلك مما مرّ من تفاصيل في هجاء الشاعر هو تحول شاهد من حضورِ الى غياب ، غياب يخلده الشعر بحضور ملفتٍ للغة الشاعر المعارضة .
وعلى العكس من ذلك نجده في الرثاء ، فالشاعر حين يرثي يحوّل الغياب حضوراً . عاطفة ممزوجة بيقين من أحقية المرثي في القصيدة ، قال مثلاً في رثاء أحمد بن معز الدين :
نبأٌ تقاصرَ دُونهُ الأنباءُ
                  واستمطرَ العَبراتِ وهي دِماءُ
 
فالمُقرباتُ خواشعٌ أبصارُها
                  ميل الرؤوسِ صليلهنّ بُكاءُ
 
والبيضُ تقلقُ في الغُمودِ كما التوى
                  رُقشٌ تبلُ متونها الأنداءُ
 
والسّمرُ راجفةٌ كأنّ كُعوبها
                  تلوي معاقدها يدٌ شلاّءُ
 
والشّمسُ شاحبةٌ يمورُ شُعاعها
                  مورَ الغديرِ طغتْ به النّكباءُ
 
والنَّيَّراتُ طوالعٌ رأدَ الضّحى
                  نُفضتْ على صَفَحاتها الظّلماءُ
 
كل هذه الاختلالات في فلسفة الطبيعة هي غيابٌ لغياب ، فاختلال الطبيعة بحسب رؤية الشاعر هو نتيجة لغياب المرثي الذي احدث هو الآخر اختلالاً كبيراً في الحياة . ذلك الغياب الذي يحوّله الشاعر حضوراً بذكر مناقبه والتأسف على فقدها . إذ قال :
يندُبنَ أحمد فالبلادُ خواشعٌ
                  والأرضُ تُعولُ والصّباحُ مساءُ
 
والعينُ تنزفُ ماءها حُرق الجوى
                  والوجهُ تُضمرُ ناره الأحشاءُ
 
فأذلّ أعناقاً خضعن لفقدهِ
                  وهي التي طمحت بها الخُيلاءُ
 
غنيتْ عواطلِ بعدما صاغتْ حُلى
                  أطواقِها بنوالهِ الآلاءُ
 
ما للمنايا يجتذبنَ إلى الرّدى
                  مُهجاً فهنَّ طلائحُ أنضاءُ
 
تُدهى بها العصماءُ في شعفاتِها
                  وتحطُّ عنْ وكُناتها الشّغواءُ
 
عُونٌ تكدَّسُ بالنّفوسِ وعندها
                  في كلِّ يومٍ مُهجةٌ عذراءُ
 
وفي نهاية الحديث عن هذا المحور نقول : إنّ قصائد الشاعر مرايا تعكس حضوراً او غياباً. وهنا تتحقق تلك الجدلية في فضاء شعري مناسب للحدث ، ولا بد من إجادة التوازن وإكمال عناصر الحضور والغياب بعضها بعضاً ، تلك الإجادة التي تخرج من النص بدلالاتٍ فنية إبداعية مؤثرةٍ ، تومئ إلى الواقع من جهة ، وتحتفظ بخصوصية القصيدة من جهة أخرى .

شارك هذا الموضوع: