الاستشراق الالماني وتأثيره بالحضارة العربية الاسلامية
الاستشراق في اللغة: لفظ مشتق من كلمة شرق، ويقال : شرقت الشمس، تشرق شروقاً وشرقاً، بمعنى: طلعت، والتشريق الاخذ بناحية المشرق، يقال شتان بين المشرق والمغرب، وشرقوا أي ذهبوا باتجاه الشرق، او اتو الشرق، وكل ما طلع من المشرق فقد شرق، والشرق والشرقي هو الموضع التي تشرق فيه الشمس من الارض
الاستشراق اصطلاحاً : علم يدرس لغات الشرق وتراثهم وحضاراتهم ومجتمعاتهم وماضيهم وحاضرهم، ويدخل ضمن معنى الشرق اي منطقة شرقية، لكن اصطلاحاً يعني ماله علاقة بالدراسات العربية او اللغات التي تؤثر فيها العربية كاللغات التركية والفارسية وغيرها من اللغات.
اعتبر عام 1143 بداية لتاريخ الاستشراق، لكن ذلك لا يعني انه لا يوجد ردود فعليه قبل هذا التاريخ وبداية من مغادرة الاسلام عقر داره بالجزيرة ووصوله الى الاقصيين غرباً وشرقاً، ولاسيما عندما نحج في الوصول الى شبه الجزيرة الايبيرية بعد انتزاع الاماكن المقدسة للمسيحيين لكن الحقيقة العلمية ترى ان تاريخ الاستشراق يعود الى فترات اعمق من القرن التاسع عشر الميلادي.
اهتمت المانيا بدراسة الشرق على غرار باقي الدول الغربية، فتعود الجذور الاولى لاتصال المانيا بالشرق وبالعرب المسلمين الى ايام الحروب الصليبية الثانية (1147-1149) فقد كان الالمان حينها من المشاركين في الحج الى الاراضي المقدسة حيث وصفوا تلك البلاد ونقلوا شيئاً من حضارتها بعد عودتهم الى مواطنهم، كما شاركوا الرهبان في الترجمة عن العربية في الاندلس فكان من الطبيعي ان ينصرف الامان الى دراسة تراث الشرق انطلاقاً من دراسة اللغات الشرقية بعد ان بدأت هذه الدراسات تحظى باهتمام العلماء في فرنسا وانكلترا، ففي تلك المرحلة لم تظهر بوادر الاستشراق الالماني مقارنة بالاستشراق الانكليزي والفرنسي اللذان انطلقا مبكراً، ففي القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد انعقدت النية على انشاء كرسي لدراسة اللغات الشرقية في المانيا فكانت تلك النية متزامنة مع تأسيس الجامعات في المانية التي تأخرت في تأسيسها في المانيا مقابل بقية الدول الاوروبية، وجعل هذا التأخير واقع الدراسات الاستشراقية الالمانية في القرن السادس عشر الميلادي حقلاً متواضعاً لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً اذا اخذت تلك الدراسات بالتطور حتى اصبحت فرعاً مستقلاُ عن العلوم النظرية المتأصلاً في افق الثقافة الالمانية، وان هذا القرن يمكن ان نعتبره بداية تبلور الاستشراق الالماني، فكانت الخطوات الاولى للاستشراق الالماني في القرن السادس عشر هي جمع المخطوطات الشرقية وتخصيص كراسي لتدريس اللغات الشرقية في الجامعات الالمانية.
يمكن القول ان الاستشراق سواء كان فرنسيًا أو ألمانيًا أو روسيًا يشترك في شيء ما بنسب متفاوتة في عداؤه للأمّة الإسلامية على الخصوص، وإذا كان الاستشراق يهتمّ بالشرق في مُجمله فإنّه ركّز في نهاية المطاف على الإسلام والمسلمين عامّة، ولذلك قد نجد اختلافًا بين المدارس الاستشراقية ، ولكن هذا الاختلاف ربّما في المناهج، ومهما اختلفت المدارس الاستشراقية فأن غايته واحدة، وإنّما تعدَّدت المناهج والغاية والأهداف والمقاصد تكمُن في بقاء الحضارة الغربية على سيطرتها.
كان من المتوقع ان لا يبدأ الاهتمام العلمي بالدين الاسلامي وحضارته الا بعد عصر التنوير، مع ان كرسي الاستاذية الذي انشئ عام 1521 للدراسات العبرية كان يشغله في الغالب رجال اهتموا باللغة العربية من جانب لاهوتي منهم فيلهلم شيكارد الذي شغله للمدة ما بين (1619-1635) وتعمق في دراسة اللغة العربية والف في هذا المجال العديد من البحوث اهمها (الإله الفريد في العالم الاسلامي ) و (الفردوس اليهودي الاسلامي).
وفي القرن السابع عشر ظهر بعض المستشرقين الامان الذين اهتموا بالدراسات العربية منهم: اللاهوتي جوهان هوتنغر الذي عمل فهرسا للمخطوطات الشرقية وقام بنشره عام 1658 في هايدلبرغ، كما قام المستشرقون الالمان بزيارة هولندا لمزاولة دراساتهم، فقد كانت هولندا قد قطعت شوطاً كبيراً في الدراسات الشرقية مقارنة بالمانيا آنذاك، وانشأت في القرن نفسه اول مطبعة للقران الكريم بحروف عربية، وفي القرن الثامن عشر تطور الاستشراق الالماني فعرف تيارين ثقافيين كبيرين مستقلين ومتواصلين في الوقت ذاته تيار الرومانسية وتيار التاريخية الاكاديمية، وان اهم الاعمال الادبية التي حظيت باهتمام المستشرقين الالمان هو ما قام به فريدر ريكرت الذي ترجم مقامات الحريري التي اعجب بها الى (تحولات ابو زيد السروجي)، وكان رايسكه ممن ذهب الى هولندا لمعالجة المخطوطات العربية في جامعة ليدن وكان ذا رغبة في دراسة الشعر العربي فجعل دراسة اللغة العربية مستقلة بخلاف ما يراها بعض المستشرقين اضافية من اجل دراسة العبرية.
يعد الاستشراق الألماني الوحيد الذي عرف بإنصافه للعالم العربي وفي هذا يقول صلاح الدين المنجد “لم يخضع الإستشراق الألماني لغايات سياسية استعمارية أو دينية، كالاستشراق في بلدان أوربية أخرى فألمانيا لم يتح لها، أن تستعمر البلاد العربية أو الإسلامية ولم تكن غايتها الاساسية نشر الدين المسيحي في الشرق لذلك ظلت المدرسة الاستشراقية الالمانية محافظة على الأغلب على التجرد غالبا والروح العلمية، فلم تكن الدراسات الالمانية عن العرب والحضارة العربية الاسلامية متصفة بروح عدائية، فرافقت دراساتهم روح اعجاب وتقدير وانصاف وحب فنجد هذه الروح عند رايسكه الذي سمي نفسه شهيد الادب العربي.
كان أول المستشرقين الألمان الذين اهتموا باقتناء المخطوطات العربية المستشرق بوستال الذي أتقن العربية والتركية وألف كتابا في النحو، وكذلك قام ببيع المخطوطات التي حصل عليها إلى مكتبة جامعة هايدلبرج وأصبحت هذه المخطوطات َ الأساس الذي بنيت عليه دراسة اللغات الشرقية في ألمانيا في مهدها، وكان يعقوب كريستمان الذي اتقن العربية من كتاب النحو لبوستال اول من اشار الى تشكيل كرسي خاص في جامعة هايدلبرج للدراسات الشخصية وخاصة العربية وكان ذلك سنة 1590، الذي لم ينفذ حتى عام 1609، ستمرت تلك الأعمال بطبيعة دينية لاهوتية بالدرجة الأولى أصبحت أقسام الاستشراق في الجامعات الألمانية المصدر الرئيس لإنتاج الدراسات المطلوبة عن العرب والمسلمين، وأساس تدريب السياسيين والإداريين الذاهبين إلى الشرق، مما خلف تراثاً من وجهات النظر والاحكام المسبقة بشأن العرب والاسلام فأطروحات المستشرقين الرواد صاغت ّ وشكلت الفهم الغربي والألماني على كافة المستويات. ومما يثير الارتباك ذلك ُّ الكم الهائل لت الفهم الغربي من الدراسات والأبحاث العلمية ذات المستوى العلمي الرفيع والدقيق عن تراث الإسلام .
اهتم اوجست موللر باللغة العربية وفلسفتها ومن المستشرقين الكبار فستنفلد وكان صاحب اعمال علمية وفيرة اهمها نشره لكتاب (طبقات الحفاظ) للذهبي سنة 1833، و (وفيات الاعيان) لابن خلكان، ونجح في تحقيق اشهر كتب الجغرافية بالعربية، ويعتبر كارل بروكلمان من المستشرقين الالمان وهو عالم بتاريخ الادب العربي وترجم كتابه (تاريخ الادب العربي) الى العربية، ورد فيه اسماء الادباء العرب من كتاب وفلاسفة وعلماء، وبظهور فلوجل وغيره من الكبار نضجت اتجاهات الاستشراق الالمانية وقويت دعائمه وكان انتاجه العلمي غزير ووافر.
فللدراسات الألمانية المعاصرة إسهامات جليلة في تناول الأدب العربي القديم والشعر الجاهلي خاصة وفي هذا السياق أنتج الشاعر والروائي المسرحي يوهان فولاجوته أشهر أعماله المسرحية الشعرية (فاومت) وهو عمل مقتبس بشدة من الموضوعات الإسلامية، ويقلد الأساليب الأدبية العربية، وطور المعماريون الأوربيون أساليب تعتمد على عناصر أسلوبية مصرية قديمة ومازال الاستشراق الألماني مزدهرا في العديد من الجامعات وقد لحق غيره فالاهتمام بالقضايا المعاصرة التي تخص العالم العربي الإسلامي.
صنف اتجاهات المستشرقين في تحقيق التراث العربي الاسلامي الى مدارس، اطلقت عليها المدارس الاستشراقية، وقد ظهرت في المرحلة الاولى في اواخر القرن السابع عشر وفيها كان الاقبال لنشر المخطوطات العربية وتحقيقها وترجمة بضاً منها، ومن بين تلك المدارس المدرسة الالمانية التي ركزت على دراسة المواضيع العلمية في الحضارة العربية كالطب والرياضيات، واهتمت الجامعات الالمانية بدراسة اللغة العربية وخصصت تلك الجامعات كراسي لها منذ منتصف القرن السادس عشر وظهر اول كتاب مطبوع في مدينة هايد لبرنج بعنوان رسالة بولس الرسول، وبفضل المستشرق الالماني نولدكه نشرت اهم كتب التراث بتحقيقات امتازت بالدقة والقدرة الفائقة.
ولع الاستشراق بالأدب العربي ويرجع هذا الاهتمام إلى أسباب عديدة أهمها صلة الأدب بالإسلام وكتابة القرآن الكريم باللغة العربية “فالقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من بين الكتب المقدسة الذي ظل يقرأ بلغته الأصلية في كل مكان نزل فيه وهذا في حد ذاته، يضيف إلى معجزة القرآن بعدا آخر لذلك يحاول الكثير الباحثون فيكل زمان ومكان الغوص في أسراره ومعرفة مكنوناته، كما اهتموا بدراسة الشخصية العربية وفهمها لأن الهوية العربية متصلة بالأدب العربي فهو يمثل ويمثل انفتاحها وتقديمها “فإن الأدب العربي بالذات يعد صورة لحياة العرب قديما وحديثا، فالأدب العربي شعرا ونثرا زاخرا بالمعاني الإنسانية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، وهو يحيط إحاطة تامة بمقومات أسلافنا القومية، بالإضافة الى تأثير الادب العربي على الاداب الاوروبية لان الثقافة العربية وصلت الى اوروبا عن طريق وسائل عدة منها الحروب الصليبية وعن طريق الحضارة العربية الى الاندلس .