الافعال في سورة الفتح دراسة في التعبير القرآنيا.د. فلاح رسول حسين
الافعال في سورة الفتح دراسة في التعبير القرآني
ا.د. فلاح رسول حسين
قال تعالى (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)) [الفتح : 1] .
جاء هنا الفعل (فتحنا) ماضيا وليس مضارعا مع أن الفتح لم يتحقق بناء على الرأي القائل بأنه فتح مكة [i]، قال الزمخشري : (( وجيء به على لفظ الماضي على عادة ربّ العزة سبحانه في أخباره؛ لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخْبِر ما لا يخفى))[ii]. وتطرق الالوسي لرأي الزمخشري بالتفصيل مبينا السبب قائلا : ((وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في «الكشاف» ، وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وإن منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمراً تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة ، وقيل غير ذلك ))[iii]. وذكر ابن عاشور رأيين في المسألة : ((وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه ، شُبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي . أو نقول استعمل (فتحنا ) بمعنى : قدّرنا لك الفتح ، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع . وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره ، وذلك أيضاً كناية عن علو شأن المخبر ))[iv] ، وكل ما ذُكر لا غبار عليه ، وجميعه مُتقبل ، وإن كان الأقرب للباحث هو الرأي الأول .
قال تعالى : ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ )) [الفتح من الآية: 4].
استعمل تعالى (انزل) دون سواه ، والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها ، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها [v]. أي فلم يقل (خلق) أو ( أوجد) للغرض المذكور آنفا.
قال تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ )) [الفتح من الآية : 10] . جاء الفعل (يبايع) مضارعا مع انه قد وقع ؛ فالمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية [vi]. وبين محيي الدين الدرويش سبب هذا الاستحضار قائلا : (( عدول عن المضارع إلى الماضي ، والسر فيه : استحضار صورة المبايعة ، لأنها جديرة بالتجسيد))[vii].
هنا اسند الفعل (تدعون) إلى المجهول ، فما الغاية من اختيار الفعل بهذه الصيغة ؟ قيل في ذلك : (( لان الغرض الأمر بامتثال الداعي وهو ولي أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) [الفتح : 17]. ودعوة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله : (ومن أطاع أمري فقد أطاعني) ))[viii] . وقد زاد هذا الرأي قبولا هو الدليل القرآني.
استعمل تعالى (أظفركم) ولم يستعمل (نصركم) ، علل ابن عاشور هذا الاختيار مشيرا إلى نكتة رائعة قائلا : (( لأن الظفر هو الفوز بالمطلوب فلا يقتضي وجود قتال فالظفر أعم من النصر ، أي من بعد أن أنالكم ما فيه نفعكم وهو هدنة الصلح وأن تعودوا إلى العمرة في العام القابل ))[ix].
آثر تعالى الفعل (جعل) ، وفي إيثار فعل ( جعل ) في هذا التركيب دون أن يقول : فتح لكم من دون ذلك فتحاً قريباً أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه [x] .
في الآية المتقدمة نرى مجيء الفعل (تراهم) بهذه الصيغة (الفعل المضارع) : (( والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي ، ومن هنا قال في البحر: هذا دليل على كثرة الصلاة منهم ))[xi].
و نجد أيضا: (استغلظ) بصيغة (استفعل)، وفي ذلك آراء ، قال الالوسي: (( ( فاستغلظ ) فصار من الدقة إلى الغلظ ، وهو من باب استنوق الجمل ، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه ، وأوثر الأول لأن المساق ينبىء عن التدرج))[xii] ، وبين ابن عاشور معنى المبالغة بقوله : (( غلظ غلظا شديدا في نوعه ، فالسين والتاء للمبالغة مثل : استجاب ))[xiii] ، ورأي التدرج هو الأولى المناسب للسياق.
[i] اختلف في معنى الفتح ، ومن الاراء المشهورة في ذلك انه فتح الحديبية ، ينظر: الكشاف : 4/ 335 . وينظر : البحر المحيط : 9/482 .