شغلت ظاهرة الالتفات اللغويين والمفسِّرين والبيانيين لما يحيط بهذه الظاهرة من مجال في إشغال الفكر لورود عناصر التركيب بأحوال متعددة تكاد تفترق في تناسقها لولا انزياح الفكر إلى تلقف مكامن المعنى التي يدَّخرها هذا الالتفات، فينحو في ضوء تلقف المعنى إلى العناية بكلام المتكلم والكشف عن مقاصده، لتكوَّن هذه الظاهرة بعد ارتباطها بالمعنى أسلوبًا من أساليب اللغة التي تؤول إلى معنى يخصُّها بحسب نوع الالتفات الذي يرد به الكلام، فهو طريقة أو رجوع من مقام إلى آخر، مثل : الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، أو من الخبر إلى الإنشاء وبالعكس أو من الماضي إلى المضارع أو المضارع إلى الماضي, يفعل ذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام، وفيه فوائد كثيرة ، أو من الفعل إلى الاسم وغير ذلك , وليس يُفعل ذلك اتساعاً فقط بل لأمر أعلى، ومهم من الغرض أعنى، فقصد المعنى يرافق الالتفات وغيره .
يُعدُّ الالتفات من الخبر إلى الانشاء أو خلاف ذلك أحد أنواع الانتقال عن أصل التركيب فقد يأتي الكلام بلفظ الخبر والمراد به الانشاء بأحد أقسامه أو يُؤتى بلفظ الانشاء إلّا أنّ المراد به الخبر , وتكون غرض هذا الالتفات هو تحقيق معنى يطلبه منشئ النص غير معنى التركيب الأصل , فيُولد أثرا في النفس أكثر مما لو جاء الكلام على أصل وضعه , وإنّه يدخل من ضمن مزيَّة انمازت بها العربية ألا وهي مزيّة السعة التي يكتسب بها النص معانيَ جديدة غير معانيه الأصل .
وفي هذا الالتفات خروج عن مقتضى الظاهر أي انحراف في النص الاصل لأجل تحقيق غايات تُضيف على النص أثرًا بالغًا , وذلك : أن الطلب كثيراً ما يخرج لا على مقتضى الظاهر وكذلك الخبر فيذكر أحدهما في موضع الآخر ولا يصار على ذلك إلا لتوخي نكت قلّما يتفطن لها من لا يرجع على دربة في نوعنا هذا ولا يعض فيه بضرس قاطع والكلام بذلك متى صادف متممات البلاغة افتر لك عن السحر الحلال بما شئت .
ومن المواضع التي تلمّسنا فيها عدولا عن الانشاء إلى الخبر في النص قوله تعالى :{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}(), فالشاهد في هذه الآية هو الالتفات من اسلوب الأمر إلى أسلوب الخبر , وجيء بالخبر هنا بدلا عن الانشاء , فـ ((الْمُطَلَّقاتُ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى))(), فرأيه هنا أن جملة ” يَتَرَبّصْنَ ” جاءت بلفظ الخبر إلّا أنَّها أفادت معنى الأمر , والتعبير بالخبر أبلغ من جهة المعنى من التعبير بالإنشاء مباشرة وهذا أمرٌ ذهب إليه صاحب الكشاف بقوله(( إخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأم، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجوداً))() , وقيل:(( هُوَ أَمْرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى عَلَى إِضْمَارِ اللَّامِ أَيْ: لِيَتَرَبَّصْنَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ))(),فالكوفيون لا يرونَ فيه عدولا وإنَّما هو أمر بدلالة إضمار لام الأمر.
إنّ المسند إليه في الآية هو ” المطلقات ” وخبره الجملة الفعلية ” يتربصن ” وخبر المبتدأ إذا كان جملة فعليه فهو يفيد التوكيد , أي أنّ الله عزّ وجل يأمرهن بالتربص , فقوله ” المطلقات يتربصن ” جملة خبرية أُريدَ بها الأمر , أي إنّ التقدير: وليتربصنَ المطلقات ” فتضمنت هذه الجملة أسلوبين , أولهما : التوكيد الناجم عن مجيء خبر المبتدأ جملة فعلية, وثانيهما : أسلوب الأمر المتضمن معنى التوجيه والإرشاد للمطلقات , فمجيء الخبر بصورة الأمر أقوى لحث المطلقات على فعل التربص لاشتماله على تأكيد فعل المأمور به وكأنه أمر حاصل لا محالة().
واُستُبعِد أن يكون في الآية حذف : ((قِيلَ: وَالْمُطَلَّقَاتُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَحُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ وَيَتَرَبَّصْنَ عَلَى حَذْفِ: أَنْ، حَتَّى يَصِحَّ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، التَّقْدِيرُ: وَحُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا))() فقوله “وهذا بعيد جدا” رفض منه لتقدير محذوف , أي أن يكون “يتربصنَ” خبرا بمعنى الخبر .
و تردد عند السمين الحلبي الخبر في الآية الكريمة أَوَرَدَ بمعناهُ الحقيقي أم خرج إلى المعنى المجازي , إذ قال : (( قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ}، وهل هذه الجملة من باب الخبر الواقع موقع الأمر ، أي : ليتربَّصنَ ، أو على بابها؟))() , ثم يذكر قولين لهذا التساؤل , الأول هو رأي الكوفيين القائل بـ : (( أنَّ لفظها أمرُ على تقدير لام الأمر ))() فهنا يكون تقدير لام الامر قبل الفعل ليعطي دلالة الأمر فهي أمر لفظا ومعنى ولا عدول هنا من الأمر إلى الخبر , والقول الثاني: (( ومَنْ جَعَلها على بابها قَدَّر : وحكم المطلقات أن يتربَّصْنَ، فحذّفّ حكم من الأول و(أنْ) المصدرية من الثاني ، وهو بعيدٌ جداً))() , فهو حينما يستبعد أن يكون الفعل ” يتربصنَ ” خبرا فمعناه إنما يؤيد رأي الكوفيين الذي نقله أبو حيّان وقد ذكرناه آنفا القائل بأنَّ الفعل قد جاء بلفظ الأمر بدلالة لام الأمر المحذوفة وقد أفاد معنى الأمر.
وأنكر القرطبي أن تكون جملة “والمطلقات يتربصن” خبرا بمعنى الأمر , إذ قال : ((وَهَذَا خَبَرٌ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:” وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ” وَجَمْعُ رَجُلٍ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، وَحَسْبُكَ دِرْهَمٌ، أَيِ اكْتَفِ بِدِرْهَمٍ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنِهِمْ … وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وجدت مطلقة لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ مَخْبَرِهِ))() , فبقوله هذا قد جعل “يتربصنَ” خبرا على بابها , لأنّه إخبارٌ من الله تعالى عن حكم الشرع وما يكون في حكم الشرع فهو ملزمٌ للجميع.
وجاء في العربية ما شابه هذه الصيغة بكثرة وذهب السهيلي بأنها ليست في الحقيقة خبراً بمعنى الأمر، ولا أمرا بمعنى الخبر، وإنما هي أخبار عما جاء في شريعة الاسلام وثبتت فيها واستقرت فنحن مأمورون بها , أي إنّها جعلتنا مأمورين بهذه الأفعال وإن لم تأتِ بصيغة الأمر والنهي() .
وأوجب الله تعالى التربص على المرأة المطلقة وأن تمكث بعد طلاقها من زوجها ثلاثة قروء ثم الزواج -إن شاءت-() , فبعدَ أن أُمِرنَ بالتربص وبما فرض عليهن امتثلن الأمر وجرين عليه بالاستمرار حتى صار شأناً من شؤونهن اللازمة لهن لا ينصرفن عنه، بل لا يخطر في البال مخالفتهن له. ولو كان الفعل بصيغة الأمر ما كان ليفيد هذا التأكيد والاهتمام ؛ لأن المأمور بالشيء قد يمتثل وقد يخالف، وهذا الضرب من التعبير معهود في التنزيل في مقام التأكيد والاهتمام () .
وفائدة إخراج الأمر بصورة الخبر في هذه الآية هو تأكيد الأمر والإشعار بأنَّه مما يجب المسارعة إلى امتثاله , أي هنَّ امتثلنَ لأمر التربص فكان الاخبار عنه موجودا , ونظيره ما يُقال في الدعاء “رحمك الله ” فكان بصورة الخبر ثقة باستجابة الدعاء , وكأنّ الرحمة موجودة فأخبر عنها() , وإنّ بناء الخبر المراد به الأمر على المبتدأ قد زاده فضل تأكيد وتقوٍّ خلاف لو قيل ” ولِيتربصن المطلقات ” لأن في الجملة الاسمية قد تكرر الخبر مرتين وفي الجملة الفعلية يذكر مرة واحدة () .