الانزياح الدلالي في الاستعارة المكنية

 
أ.م.د. فلاح عبد علي سركال
جامعة كربلاء/ كلية التربية/ قسم اللغة العربية
 
     تمثل الاستعارة المكنية واحدة من أهم أنواع الاستعارة ؛ لِما لها من أثر عميق في ذهن المتلقّي، والسبب في ذلك أنها تتميّز (( بدرجة أوغل في العمق مرجعه إلى خفاء لفظ المستعار منه وحلول بعض ملاءماته محلّه؛ مما يفرض على المُتقبِّل تخطّي مرحلة إضافيّة في العمليّة الذهنيّة التي يكتشف إثْرَها حقيقة الصورة)).
      وتعرّف الاستعارة المكنية بأنّها الاستعارة التي يذكر فيها المشبّه كطرف من طرفي التشبيه، أو هي ما حذف فيها المشبه به ورُمِزَ له بشيءٍ من لوازمهِ، وسُمِّيَتْ مكنيّة كون المستعار منه يقوم مقام المُستعار له، ويُشار إليه بشيءٍ من لوازمهِ.
      ومن هنا نلحظ أهميّة هذا النوع من الاستعارة بسبب كونها – في كثير من الأحيان- ذات أهميّة في توكيد المعنى وتوضيحه، وفي إعمال العقل واجتهاده ؛ ولهذا عدَّت الاستعارة المكنية (( أجل استعارة وأحسنها ، وكلام العرب جارٍ عليها)).
      وجملة القول في الحديث عن هذا الموضوع (( أن الاستعارة المكنية ما حُذف منها المشبّه به ورُمِزَ إليه بشيء من لوازمه الذي به كماله أو قوامه، وإثبات هذا اللازم للمشبّه به هو الاستعارة التخيليّة، وبذلك تكون الاستعارة التخيليّة قرينة المكنية لا تفارقها؛ إذ لا استعارة بدون قرينة، وهي ما كان المستعار له فيها غير محقق لا حسّاً ولا عقلاً، بل يكون صورة وهميّة محضة لا يشوبها شيء من التحقيق بقسميه )).
     فهي إذن تشبيه حُذِفَ منه المشبّه به، وَكُنِّيَ عنه بشيء من لوازمه. وعرفها الجرجاني وإنْ لم يصرّح بلفظ الكناية ولكنه وضعها تحت عنوان الاستعارة المفيدة ، فقال: (( أنْ يُؤخذ الاسم من حقيقته ويوضع موضعاً لا يُبيَّن فيه شيء يشار إليه، فيُقال: هذا هو المراد بالاسم الذي استعير له، وجعل خليفة لاسمه ونائباً منابه، ومثاله قول لبيد:
وغَداةُ ريحٍ قد وَزَعتُ وقُرّة

 
إذ أصبحتْ بيدِ الشّمالِ زمامُها

وذلك أنّه جعل للشمال يداً ))، ولذلـك عـرّف السكاكي الاسـتعارة المكنيـة بقوله: (( هي أنْ تذكر المشبّه وتريد المشبه به دالّاً على ذلك بنصب قرينة تنصبها، وهي أن تنسب إليه وتضيف شيئاً من لوازم المشبّه به المساوية)).
    ومن شواهد الاستعارة المكنية في شعر الطبري قوله في رثاء صديقه: (الكامل)
ناحتْ عليكَ مكارِمُ الأخلاقِ
قدْ أَوْدَعَتْ بِحُشاشتي جَمْرَ الأسى

 
لمّا فَقَدْتُكَ أَظْلَمَتْ آفاقي
ورُزِئْتُ مِنْكَ بأَنْفَسِ الأَعْلاقِ

    وظّف الشاعر في هذا الشاهد الشعري استعارتين مكنيتين استعار في الأولى (النوح لمكارم الأخلاق)، واستعار في الثانية (الجمر للأسى) الذي هو الحزن ، وكنّى به عنه ، وقد ذكر في كلٍّ منهما المُستعار له (مكارم الأخلاق ، والأسى) ، وحذف المُستعار منه (الإنسان) في الأولى ، و(النار) في الثانية ، وجاء بقرينتين تدل عليهما هما(النوح) في الأولى، و(الجمر) في الثانية .  
    فجمالية الاستعارة تكمن في أسلوبية التركيب للأنساق اللغوية التي انزاح بها الشاعر عما هو مألوف في إسناد ( النوح لمكارم الأخلاق ) ، و( الجمر للأسى ) ، فجات الصورة المؤدّاة بهما جميلةً موحيةً في جعل المتلقي يحس بمعنى الحزن أكمل إحساس وأوفاه ، وجعلت الأمر المعنوي أمراً محسوساً ، وهو مَكْمَنُ الجمال في الاستعارة .
    ومن شواهدها أيضاً قول أحد الشعراء في الاستنهاض : (المتقارب)
أحاميَ دينَ البشير النذير
وهَادِمَ أبنيةِ الشِّركِ مُذْ
وجامعَ شملِ التُّقى حيثُ لا
إلى مَ التَّصبُّرُ يا بن الأُلى

 
ومُحْييَ منهاجِهِ المُستنيرْ
غَدَتْ شِرْعةَ المُصطفى تَسْتَجيرْ
لا يُرى للتُّقى غيرُهُ مِنْ مُجِيرْ
رَقَوا بالمَفَاخِرِ هَامَ الأَثيرْ

    إنَّ القارئ لهذه المقطوعة يلحظ أنَّ الشاعر قد وظّفَ عدداً من الاستعارات المكنية التي أدّت صوراً ذات دلالة جمالية وظيفتها تأدية المعنى وشدّ المتلقي لسماعها ، وهي (مُحيي منهاجه المُستنير) ، و(شرعة المصطفى تستجير)، و(جامع شمل التقى) ، و(لا يُرى للتقى من مُجير)، و(رقوا هام الأثير) فقد نقلت الاستعارات الدلالة بأوسع المعاني ، وهذا النقل قام في بنيته الفنيّة على نقل معاني الألفاظ من الحقيقة إلى المجاز، والاستناد إلى عُنصري الإيحاء والتخييل ، والتواشج بين طرفي الاستعارة ، وهذا التواشج قد زاد من جماليّة النصّ وقيمته التصويرية .
   ومنها أيضاً قوله في تقبيل كتاب جاءه من أخيه كان يسكن في خراسان: (الكامل)
زرتُ الكتابَ وأدمُعي مِدرارُ

 
والقلبُ مُضْطَرِمٌ كأنهُ نارُ

    استعار الشاعر لفظة (مضطرم) التي هي في أصل اللغة لوصف النار عند شدة إيقادها وأسندها للقلب على سبيل المكنيّة ؛ ليبيّن شدَّة شوقه لأخيه ، وأسند هذا المعنى بمعنى كنائي في قوله: (زرت الكتاب) وصف فيه تقبيله لكتاب أخيه بشوق وحرارة . فحمل البيت شحنة دلاليّة تصويريّة تدخّلت مجموعة من العناصر المتنوعة المستندة إلى الخيال في تكوينها، ليقوم الذهن بعقد علاقات بينها للتواشج فيما بينها ، وإمكان نيابة بعضها عن بعضه الآخر.
    ومن شواهدها الأخرى في شعر الطبري قوله في رثاء الإمام الحسن السبط(ع): (الوافر)
فؤادُ الدّينِ مُكتئبٌ شجيٌّ

 
وقد أودى به الداءُ الدويُّ

وطَالَ نَحِيْبُهُ جزعاً بيومٍ

 
قضى نَحْبَاً بهِ الحَسَنُ الزَّكيُّ

  فالصورة التي رسمتها الاستعارة المكنية في هذين البيتين صورة جمالية تحقق انفعالاً ملموساً وواضحاً لدى المتلقي حين يبدأ يتخيّل أنَّ للدين فؤاداً حزيناً شجيّاً قد ألّمه الداء العضال ، وطال نحيبه حزناً على الحسن المجتبى(ع) ، فالمقاطع الاستعارية أدّت تكثيفاً للنمط الفنّيّ الذي غلف التعبير ، وعملت على إزاحة معاني الألفاظ ودلالاتها من الحقيقة إلى معانٍ بلاغيّة قَصَدها الشاعر في قوله : (( فؤاد الدين مكتئب شجي ، وأودى به الداء ، وطال نحيبه …)) . 
    ومنها أيضاً ما قاله في رثاء أحد أعيان عصره: (الكامل)
بِمحمّدِ الحَبْرِ التقيِّ أبوهُ مَنْ

 
قدْ جَلْبَبَتْهُ يَدُ التُّقى أَبْرادَها

فُجِعَتْ مَحاريبُ التُّقاةِ بهِ كما

 
فيهِ المحاربُ أفْجَعَتْ عُبَّادَها

ذا العَالِمُ الحَبرُ العليُّ أخو عُلا

 
يَنْمِي إليهِ من الوَرى أَمجادَها

    في البيت الأوّل عملت الاستعارة في قول الشاعر: (جلببتهُ يدُ التُّقى أبرادَها) على الانسجام بين المستعار له (التُّقى) والمستعار منه( اليد) التي اُستُعِيْرتْ من الإنسان بفضل التفاعل بين قرينة السياق والتوتّر بين بؤرة الاستعارة والإطار المحيط بها ، ممّا أوجد ثراءً دلاليّاً مال إلى الحسيّة ، ونأى بالنصّ عن التقريريّة إلى التصوير الخياليّ بعد أنْ جعل المُتلقي يتخيّل أنَّ للتُّقى يداً ألبست الممدوح جلابيباً منها.
     أما البيت الثاني فالاستعارة في قوله: (فُجِعَتْ مَحاريبُ التُّقاةِ بهِ)، و(المحاربُ أفْجَعَتْ عُبَّادَها) إذ استعار الشاعر لازمة من لوازم الإنسان(الفجيعة) وأسبغها على(المحاريب) التي هي من الجمادات ما منح البيت فاعليّة أدبيّة تصويريّة نقلت المعاني بإيحاءاتها إلى تخيل واسع لدى المُتلقّي وتصوّره للشيء غير الطبيعيّ بأنّه طبيعي ومقبول . فأدّت الألفاظ اللغويّة شحنة دلاليّة انبثقت بالأساس من تفنّن الشاعر باستعمالها ، فعملت على تحريك ذهن المتلقّي إلى فكِّ رموز الألفاظ، وإبداء التلاؤم المطلوب بين طرفي الاستعارة ؛ المستعار له والمستعار منه. 
   
 

شارك هذا الموضوع: