التحديات التي تحول دون سير الارتقاء الحضاري في التاريخ بوتيرة واحدة
أ. د. حيدر صبري شاكر الخيقاني
جامعة كربلاء- كلية التربية للعلوم الانسانية- قسم التاريخ
Haidr.s@uokerbala.edu.iq
درس العديد من الفلاسفة والمؤرخين الاوربيين موضوع اتجاه حركة التاريخ الانساني منذ الخليقة وحتى يومنا هذا، واختلفوا في التفسيرات التي طرحوها حول ذلك، وحاولوا ايجاد تفسير مناسب يبين العوامل الرئيسة التي تحدد حركة التاريخ الانساني، وعلى الرغم من الآراء العديدة التي طرحت حول هذا الموضوع الا ان الواقع اثبت ان حركة التاريخ لا تسير على وتيرة واحدة من ناحية التقدم والارتقاء الحضاري، وكانت الآراء التي عللت اسباب ذلك نابعة من توجهات وميول الاشخاص الذين طرحوها ومعتقداتهم الفكرية والدينية.
ويرى الفيلسوف العربي عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) ان حركة التاريخ لا تسير وفق نسق واحد نحو التقدم والارتقاء وانما هي حركة دورية، والدولة من وجهة نظره تمر بثلاثة مراحل اشبه بالكائن الحي وهي: النمو، والشباب، والشيخوخة، ويعتقد ان الدول تنشأ بفضل جهود أبنائها، ولكنها تنهار بسبب ميل النخبة الحاكمة فيها الى الاستبداد والاتجاه نحو حياة الترف، وانحراف حكامها ويقول في ذلك: “ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه (تقلبوا فيه) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة”. اما المؤرخ والفيلسوف البريطاني ارنولد توينبي فهو يعتقد ان سبب عدم اتجاه الارتقاء الحضاري في التاريخ بوتيرة واحدة يعود الى التحديات الجغرافية التي تواجه الحضارات الانسانية وتؤدي الى زوالها بشكل رئيس.
ويعتقد اصحاب الفكر المادي ان حركة التاريخ تستند على عوامل اقتصادية بحتة، اذ ربط اصحاب المادية التاريخية موضوع تطور المجتمع بموضوع تقدم القوى المنتجة، والعلاقات التي تقوم عليها، بينما يرى اصحاب الفكر المثالي ان ذلك يعود الى اسباب فكرية تتعلق بإعطاء الاولوية في الوجود للوعي والفكرة، التي يعدونها الاساس الذي تنتج عنه التغيرات التي تطرأ على العالم المادي، وابرز رواد هذا الاتجاه هو الفيلسوف الالماني فردريك هيجل Friedrich Hege (1770-1831) الذي ركز في فلسفته على الفكرة المثالية الجدلية التي تستند على صراع الاضداد وفقا للحركة الدياليكتيكة والتي يطلق عليها مصطلح “الجدل المنطقي الديالكتيكي”، والذي عد بموجبه حركة التاريخ تتقدم دائما نحو الامام وهذا التقدم يستند على اساس مراحل ثلاث وهي الفكرةThe thesis, ونقيضها antithesis ومن ثم المركب synthesisالناتج عن الفكرة ونقيضها.
ويرى رجال الدين بشكل عام ان العوامل المؤثرة في سير حركة التاريخ تعود الى اسباب دينية بحتة تتعلق بالإرادة الالهية، وهم يعتقدون ان حركة التاريخ وبناء الحضارات لا تسير على وتيرة واحدة دائما الى الامام نحو الارتقاء والتقدم، واوضحوا ان ذلك مرتبط بمدى التزام البشر بالقيم والتعاليم الدينية، وعندما تخرج الامم عن تلك التعاليم فان مصيرها الهلاك والزوال، وعند التزامها بها فان مصيرها التقدم والازدهار.
وفسر بعض الفلاسفة الاوربيين سير حركة التاريخ تفسيرا مختلفا ومنهم الفيلسوف والمؤرخ البريطاني ادوارد هالت كار Edward Hallett Carr (1892-1982) الذي اوضح ان حركة التاريخ هي حركة غير مستقرة، وهي تتأثر بالظروف التي تمر بها الحضارات، وبين انها لا تسير على وتيرة واحدة، ويقول في ذلك: ” لا يوجد شخص سليم العقل، يعتقد ابدا في نوع من التقدم يسير في اتجاه مستقيم لا ينقطع دون انعكاسات او انحرافات وتوقف عن الاستمرار، حتى ان اخطر نكوص لا يعد بالضرورة قاضيا على الاعتقاد، ومن الواضح انه توجد عصور للنكوص كما توجد عصور للتقدم. اكثر من ذلك انه قد يكون من الحماقة افتراض ان التقدم سوف يستأنف بعد التقهقر من نفس النقطة او باتباع نفس الاتجاه… ان اي تقدم نستطيع ان نشاهده في التاريخ، هو بالتأكيد غير مستمر في اي من الزمان او المكان”. وهو تفسير منطقي بلا شك يستند الى الواقع.
ولو تمعنا في جميع التفسيرات السابقة، التي طرحت حول التحديات التي تحول دون سير عملية الارتقاء الحضاري في التاريخ بوتيرة واحدة، سوف نلاحظ انها لم تتعمق بدراسة النزعات غير الانسانية لدى بعض الحكام والسياسيين، والمتمثلة بالطمع، والرغبة في استغلال الاخرين وسلب حقوقهم، وقد ادت تلك النزعات الى حدوث حروب كبرى راح ضحيتها الملايين من البشر، ودمرت الكثير من المنجزات الحضارية، وادت الى عرقلة سير الحضارة الانسانية نحو الارتقاء والتقدم لسنوات عدة، وهناك امثلة عديدة حول ذلك في التاريخ الحديث ومنها على سبيل المثال الاعمال الوحشية التي اقدم عليها المغول في البلاد الاسلامية، وسياسة الفاشيين بزعامة بنيتو موسوليني في ايطاليا، والجرائم التي قام بها النازيين في عهد ادولف هتلر بالمانيا، وكذلك ضد الدول التي سيطروا عليها خلال الحرب العالمية الثانية، والسياسة التي اتبعها البلاشفة في الاتحاد السوفيتي خلال فترة حكم جوزيف ستالين، والامثلة على ذلك كثيرة جدا. لذلك يمكن ان نعد النزعات غير الانسانية لدى بعض الحكام من الاسباب الرئيسة التي عرقلة سير الارتقاء الحضاري في التاريخ وجعلته لا يسير بوتيرة واحدة في طريق الارتقاء الحضاري.