التدهور الفكري
دكتور محمد جواد جميل
كلية التربية للعلوم الإنسانية – جامعة كربلاء
يعتقد العديد من البالغين أن مهاراتهم في التفكير والذاكرة تتدهور، أو أنها ستتدهور، مع تقدمهم في العمر. وكثيرًا ما يُصرّح كبار السن بأن ذاكرتهم “لم تعد جيدة كما كانت في السابق”، وقد يتجنب البعض المشاركة في تعليم الكبار أو التدريب في مكان العمل لاعتقادهم بأنه “لا يمكنك تعليم كلب عجوز حيلاً جديدة”. في حين تُظهر الأدلة العلمية أن بعض القدرات الفكرية قد تتراجع في سن الشيخوخة، إلا أن هذا التراجع ليس حتميًا ولا عالميًا وليس بالعمق الذي توحي به المعتقدات الشائعة.
لسنوات عديدة، اعتقد علماء النفس المعرفي الذين يدرسون الأداء الفكري أن القدرات المعرفية تبدأ في التدهور في منتصف مرحلة البلوغ وتنخفض بشكل ملحوظ في سن الشيخوخة. خلال الحرب العالمية الأولى، بدأ جيش الولايات المتحدة في اختبار القدرات الفكرية للمجندين لتحديد أنواع العمل العسكري التي تناسبهم. وقد أظهرت النتائج أن القدرات الفكرية تبلغ ذروتها في بداية مرحلة البلوغ ثم تنخفض بشكل منهجي مع تقدم العمر ونوع المهارة التي تم قياسها. وأظهرت القدرات اللفظية أقل انخفاض، بينما عانت المهارات العددية والاستدلالية من أكبر الخسائر.
استندت نتائج الدراسات المبكرة حول شيخوخة القدرات الفكرية إلى عينات مقطعية مستعرضة لأفراد من مختلف الأعمار، مثل البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و 40 و 60 عامًا. مثل هذه الدراسات لا تُظهر كيف يتغير الذكاء داخل الأفراد بمرور الوقت: فالتغيرات العمرية تختلط مع الاختلافات العمرية، مما يعطي صورة مضللة عن التدهور الفكري. ولأن كبار السن عادةً ما يكونون أقل تعليماً، وليسوا متمرسين جيداً في أداء الاختبارات مقارنةً بالشباب، فإنهم يميلون إلى الظهور بمظهر أقل ذكاءً.
عندما أصبحت البيانات الطولية متاحة، بدأت تظهر صورة مختلفة للتغيرات الفكرية. تتبع الدراسات الطولية الأفراد على مدى فترة زمنية طويلة – عدة سنوات أو عقود – وتقيس قدراتهم الفكرية كل بضع سنوات. على سبيل المثال، أعادت إحدى الدراسات اختبار رجال يبلغون من العمر 50 عامًا كانوا قد خضعوا لاختبار “ألفا” للجيش خلال الحرب العالمية الأولى. وُجد أن هؤلاء الرجال لديهم درجات ذكاء أعلى، في المتوسط، مما كانت عليه عندما كانوا في التاسعة عشرة من العمر. وأظهرت متابعة ثانية أنهم حافظوا على هذه القدرات حتى الستينيات من العمر. ولكن، مثل التصاميم المقطعية المستعرضة، فإن للدراسات الطولية قيود. المشكلة الرئيسية هي أن التغييرات الفردية تختلط مع اختلافات وقت القياس. يمر الوقت من قياس إلى آخر، والأحداث التي تحدث خلال الفترة الفاصلة يمكن أن يكون لها تأثير على أداء الأفراد.
لمواجهة المشاكل المتعلقة بهذين النهجين لدراسة شيخوخة القدرات الفكرية، أجرى ك. وارنر شاي (K. Warner Schaie) في جامعة ولاية بنسلفانيا دراسة طموحة. وقد استمرت دراسته الطولية في سياتل على مدى خمسة عقود. يحصل على درجات اختبار الذكاء، باستخدام اختبار القدرات العقلية الأولية (Primary Mental Abilities Test)، على مقطع عرضي من البالغين في سنة معينة (بدءًا من عام 1956)، ويتم إعادة اختبار هؤلاء الأشخاص كل 7 سنوات. في كل مرة من الاختبار، يتم اختيار عينة جديدة من المشاركين، واختبارها، ومتابعتها بمرور الوقت. وبالتالي، فإن البحث يجمع بين الأساليب المقطعية المستعرضة والطولية. وجد شاي أن معظم القدرات الفكرية تظل مستقرة أو حتى تنمو بشكل جيد في الخمسينيات والستينيات من العمر. يبدأ التراجع في بعض القدرات في الستينيات، وبحلول السبعينيات تكون الخسائر الكبيرة واضحة بالنسبة لمعظم المهارات الفكرية. ومع ذلك، هناك تأثير ضئيل على الأداء المعرفي اليومي.
وبالتالي، فإن شيخوخة القدرات الفكرية أكثر تعقيدًا مما كان يُعتقد في الأصل. وقد لوحظت بعض الاختلافات بين الجنسين في أداء اختبار الذكاء. تنخفض درجات اختبارات النساء في وقت مبكر للمجالات الفكرية المحددة بيولوجيًا، في حين تنخفض درجات الرجال في وقت مبكر للمجالات المحددة ثقافيًا. أيضًا، الأشخاص المصابون بأمراض القلب والأوعية الدموية وغيرها من المشاكل الصحية هم الأكثر عرضة للمعاناة من خسائر إدراكية. وقد أظهرت الدراسات أن كبار السن يمكنهم الاستفادة من التدريب المصمم لتحسين الأداء الفكري. ووفقًا للعديد من الخبراء، فإن الحفاظ على النشاط والصحة هو مفتاح الحيوية الفكرية في سن الشيخوخة.