مقال من إعداد
م.م. أمير علي هادي
التخصص / علم الاجتماع
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية/ قسم العلوم التربوية والنفسية
 
لتعليم الجامعي ودوره في تحقيق التماسك الاجتماعي: قراءة سوسيولوجية تحليلية
إن التعليم الجامعي يشكل ركيزة أساسية للتنمية المجتمعية، ويساهم بشكل كبير في إرساء الأسس الفكرية والثقافية اللازمة للاستقرار والاستمرارية. ففي حين يضع التعليم الابتدائي والثانوي الأساس للمعرفة والمهارات الأساسية، يركز التعليم الجامعي على التخصصات الأكاديمية المتقدمة، والنهوض بالبحث العلمي، وتنمية المهنيين المهرة القادرين على المبادرة إلى إحداث تغييرات تحويلية في مختلف القطاعات. وبعيداً عن هذه الجوانب المعرفية والعملية، هناك اعتراف متزايد بالدور الحيوي الذي يلعبه التعليم الجامعي في تعزيز التماسك الاجتماعي. فهو يعمل كأداة قوية لخلق مجتمع موحد يواجه بفعالية التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال الوعي الجماعي والتضامن الاجتماعي.
التعليم الجامعي كمؤسسة اجتماعية
لا يعمل التعليم الجامعي كمصدر للمعرفة والتخصص فحسب، بل إنه أيضًا مؤسسة اجتماعية تؤثر على النسيج الاجتماعي للمجتمع. فهو يجمع بين الأفراد من خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة، مما يعزز فرص التفاعل والتبادل الثقافي بين شرائح متنوعة من السكان. وتعتبر هذه المؤسسات ضرورية لخلق روابط اجتماعية تتجاوز الخطوط الجغرافية والطبقية، وبالتالي تلعب دورًا مهمًا في تنمية الشعور بالانتماء والتفاهم بين مختلف عناصر المجتمع. ومن خلال التعليم الجامعي، يمكن للأفراد تفكيك الحواجز التقليدية المتعلقة بالطبقات الاجتماعية أو العرقيات أو الأديان، مما يساهم في تعزيز الوحدة الوطنية والشعور المشترك بالمواطنة.
إضافة إلى ذلك، تسهم الجامعات في خلق بيئة تعليمية تركز على قيم التعاون والعمل الجماعي، مما يعزز من التماسك الاجتماعي داخل المجتمع. فالجامعات، من خلال البرامج التعليمية والمشاركة في الأنشطة المجتمعية، تساهم في بناء القيم التي ترتكز على التعايش السلمي والتعاون بين مختلف أطياف المجتمع.
التعليم الجامعي وتطوير الهوية الاجتماعية
يلعب التعليم الجامعي دوراً حاسماً في تشكيل الهوية الاجتماعية للأفراد، حيث يؤثر بشكل كبير على وعيهم الذاتي وفهمهم للمجتمع المحيط بهم. ومن خلال البرامج الأكاديمية والأنشطة المختلفة، يواجه الطلاب مفاهيم اجتماعية وثقافية وسياسية تساعد في توسيع آفاقهم وتعزيز فهمهم للحقائق الاجتماعية. وفي الحرم الجامعي، يجتمع الطلاب من خلفيات اجتماعية متنوعة، مما يعزز قدرتهم على تقدير التنوع الثقافي وتحسين قدرتهم على التعامل مع الأيديولوجيات والمعتقدات المختلفة. حيث تعمل الجامعات كبيئة نابضة بالحياة لتبادل الأفكار والقيم، وتعزيز تنمية هوية اجتماعية شاملة تحتضن التنوع والاختلاف. وتمتد هذه الهوية إلى ما هو أبعد من المجال الأكاديمي، لتشمل تعزيز القيم الإنسانية والمواطنة النشطة. ويساعد هذا النهج في تشكيل الأفراد الذين يشاركون في التقدم المجتمعي ويساهمون في التقدم عبر مختلف المجالات.
التعليم الجامعي ودوره في تقليص الفوارق الاجتماعية
تلعب التعليم الجامعي دوراً حاسماً في التخفيف من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي تعوق التماسك الاجتماعي من خلال توفير فرص تعليمية متساوية للأفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية والخلفيات الاقتصادية. ويعزز هذا الوصول إلى التعليم العالي آفاقهم المستقبلية في سوق العمل، وبالتالي تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي العام. ومن خلال معالجة هذه الفوارق، تساعد الجامعات في سد الفجوات الطبقية، والحد من الفقر، وخفض معدلات البطالة، وكلها غالباً ما تكون مصادر للتوتر الاجتماعي. ومع ذلك، يظل التحدي في ضمان توفر هذه الفرص المتساوية بشكل حقيقي، حيث لا تزال الحواجز المتعلقة بالعوامل الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية قائمة. لذلك، من الضروري تنفيذ سياسات تعليمية تعزز إدماج جميع الفئات الاجتماعية في العملية التعليمية، وضمان حصول كل فرد على فرصة النجاح بغض النظر عن خلفيته.
التعليم الجامعي ودور الشباب في التماسك الاجتماعي
يلعب الشباب دوراً حاسماً في تعزيز التماسك الاجتماعي على المدى الطويل، حيث يزودهم تعليمهم الجامعي بالأدوات اللازمة للانخراط بشكل هادف في القضايا الاجتماعية الملحة. ولا تعمل هذه الرحلة التعليمية على تعزيز وعيهم واهتمامهم بالمسؤولية الاجتماعية فحسب، بل إنها تعزز أيضاً جيلاً واعياً بواجباته تجاه المجتمع. ومن خلال غرس القيم الديمقراطية وتعزيز المواطنة النشطة، تعمل الجامعات على تمكين الشباب من أن يصبحوا عملاء استباقيين للتغيير، مما يضمن استعدادهم الجيد للمساهمة بشكل إيجابي في مجتمعاتهم ومعالجة تحديات المستقبل. حيث إن دور الشباب في تعزيز التماسك الاجتماعي يتعدى مجرد الحصول على تعليم أكاديمي، بل يشمل أيضاً المشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية والسياسية. الجامعات تساهم في تكوين جيل من الشباب قادر على التأثير الإيجابي في المجتمع وتعزيز الوحدة الوطنية والعمل الجماعي لتحقيق التقدم والتنمية
كما يلعب التعليم الجامعي دوراً حاسماً في تشكيل شخصيات الشباب وصقل مهاراتهم الفكرية والاجتماعية. فهو لا يعمل فقط كوسيلة لنقل المعرفة الأكاديمية والتخصصية، بل إنه أيضاً منصة حيوية لتنمية جيل واعٍ ومسؤول ومنخرط بنشاط في التنمية المجتمعية. ويعزز هذا النهج الشامل للتعليم التماسك الاجتماعي، وتمكين الطلاب من المساهمة بشكل هادف في مجتمعاتهم والتنقل بين تعقيدات العالم الحديث بثقة وقناعة. وتعمل الجامعات كمراكز نابضة بالحياة حيث يواجه الشباب نسيجًا غنيًا من التجارب التعليمية متعددة الثقافات ومتعددة الأفكار، مما يعزز تطوير مهارات الحوار والتواصل الأساسية. ولا يعزز هذا التعرض قدرتهم على الاستماع والتفاعل مع وجهات نظر متنوعة فحسب، بل يغرس أيضًا قيم التسامح والقبول، وهي ضرورية لتعزيز التماسك الاجتماعي. ومع تعاون الطلاب مع أفراد من خلفيات مختلفة، يصبحون مجهزين بشكل أفضل لمواجهة التحديات المجتمعية وحل النزاعات بشكل بناء، مما يساهم في نهاية المطاف في مجتمع أكثر انسجامًا وتفاهمًا. كما توفر الجامعات للشباب فرصة المشاركة في الأنشطة الطلابية والمبادرات المجتمعية التي تعزز لديهم الشعور بالانتماء والمسؤولية الاجتماعية. وسواء كانت هذه الأنشطة رياضية أو ثقافية أو تطوعية، فإنها تساعد الشباب على بناء شبكات اجتماعية قوية وتنمية قيم العمل الجماعي والتعاون. وهذه القيم بدورها تعزز روح التضامن بين أفراد المجتمع وتخلق روابط قوية تساهم في تعزيز الوحدة الوطنية.
 
علاوة على ذلك، يلعب التعليم الجامعي دوراً مهماً في توعية الشباب بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بهم. وعندما يكتسب الشباب فهماً أعمق لهذه القضايا، يصبحون أكثر استعداداً للمشاركة الإيجابية في المجتمع من خلال تقديم حلول مبتكرة وإحداث تأثير إيجابي في محيطهم. إن التعليم الجامعي لا يوسع آفاق الشباب فحسب، بل يشجعهم أيضاً على أن يكونوا قادة للتغيير وقوة دافعة للتقدم والتنمية. وفي نهاية المطاف، يعد التعليم الجامعي أداة أساسية في بناء مجتمع متماسك ومتماسك. ومن خلال توفير بيئة تعليمية شاملة وداعمة، وتمكين الشباب من تنمية القيم والمهارات التي تعزز التفاهم والتكامل، يساهم التعليم الجامعي في إرساء أسس التماسك الاجتماعي وبناء مستقبل مشرق للجميع.
التحديات التي تواجه التعليم الجامعي في تحقيق التماسك الاجتماعي
على الرغم من الأثر الكبير الذي يمكن أن يحدثه التعليم الجامعي في تحقيق التماسك الاجتماعي، إلا أن هناك تحديات عدة قد تعيق هذا الدور. من أبرز هذه التحديات:
  • التفاوت في الوصول إلى التعليم:  إن العوامل الاقتصادية والجغرافية قد تحد من قدرة بعض الفئات الاجتماعية على الوصول إلى التعليم الجامعي، مما يعزز الفوارق الطبقية والاجتماعية.
  • الضغوط الاقتصادية على الجامعات : في بعض البلدان، تعاني الجامعات من نقص في التمويل، مما يؤثر سلباً على جودة التعليم ويساهم في تفاقم التفاوتات بين الطلاب.
  • التوجهات الاجتماعية الضيقة:  قد تساهم بعض الأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية في تعزيز الانقسامات داخل الحرم الجامعي، مما يعرقل التماسك الاجتماعي ويزيد من النزاعات بين الطلاب.
وفي الختام يمكن لنا القول إن التعليم الجامعي يشكل حجر الزاوية في بناء مجتمع متماسك وقادر على التفاعل بشكل إيجابي مع تحدياته. من خلال تعزيز القيم الديمقراطية، والتعددية الثقافية، والمواطنة الفاعلة، يساهم التعليم الجامعي في تحقيق الوحدة والتضامن بين مكونات المجتمع. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا التماسك يتطلب وضع سياسات تعليمية تضمن المساواة في الفرص وتخطي التحديات التي قد تقوض هذا الدور المهم.
المصادر
حسن محمد حسن وآخرون، التربية وقضايا المجتمع المعاصرة، العالمية للنشر والتوزيع المنصورة
، ٢٠٠٤م ، ص ١١۹ .
جمال علي الدهشان ، مالمح إطار جديد للتعليم في الدول العربية في ضوء المتغيرات العالمية
واإلقليمية ، المؤتمر السنوي الخامس عشر : العولمة ونظام التعليم في الوطن العربي: رؤية مستقبلية ، كليةالتربية ، جامعة المنصورة ، في الفترة من ١٢-١۳ ديسمبر ١۹۹٨م، ص ٢۹ .
بيومي محمد ضحاوي ، سالمة عبد العظيم حسين، التنمية المهنية للمعلمين مدخل جديد نحو إصالهالتعليم، دار الفكر العربي ، القاهرة ، ٢٠٠۹ ،ص ١۵
أحمد عبد الفتاح الزكي ، التربية المقارنة ونظم التعليم : دراسة: منهجية ونماذج تطبيقية، دار الوفاءلدنيا الطباعة والنشر ، اإلسكندرية ، ٢٠٠٤م ، ص ١
 

شارك هذا الموضوع: