أخذت نظرية العامل في التفكير النحوي العربي بعداً كبيراً ، فقد ظهرت بشكل صريح في أول مؤلف نحوي وصل إلينا ألا وهو ( كتاب سيبويه ) ، إذ ذكر العامل بلفظه في باب ( مجاري أواخر الكلم من العربية ) ، ثم تناول النحويون بعد سيبويه نظرية العامل بالشرح والتفصيل ، وجعلوها مستولية على أبواب النحو العربي ، فالنحويون جميعهم من البصريين والكوفيين يجعلون من العامل النحوي ضرورة ومرتكزاً للنحو في كل أبوابه ، حتى أنهم قد ألّفوا فيها كتباً كثيرةً ، ككتاب ( العوامل المئة ) للجرجاني ، وكذا كتاب ( شرح العوامل ) للشريف الجرجاني وللبركوي ، فنظرية العامل من أرقى النظريات العلمية التي لا بدّ لمسارات البحث النحوي أن تمرّ بها ، وعلى الرغم من أهميتها فقد شهدت نقداً عند القدماء والمحدثين ، كما في كتاب ( الرد على النحاة ) لابن مضاء ، إذ ضيقها رداً على إسراف النحويين فيها ، ورفضها بعض المحدثين كإبراهيم مصطفى في كتابه (إحياء النحو) ، ومهدي المخزومي في كتابه ( النحو العربي نقد وتوجيه ) ، وعلى الرغم من هذه الاعتراضات على هذه النظرية فإنها تعد حجر الزاوية للنحو العربي قديماً وحديثاً بناء على قول عبده الراجحي .
نظرية العامل تعد من أخطر النظريات في النحو العربي ؛ لأنها عماد الأبواب النحوية في النحو العربي عند النحويين القدماء قاطبة ، فقد تبلورت فكرة العامل ونظرية العمل بشكل عملي وممنهج على يد الخليل ، إذ إنه قد مدّ فروعها ، وثبّت أصولها ، فالسبق كان للخليل في هذا المضمار باعتراف سيبويه ، وأن الكتاب لسيبويه قائم في بنائه على نظرية العامل ، فكراً ، وتدويناً ، وتبويباً ، وقد تبع النحويون الخليل وسيبويه في استعمال العامل ركيزة في تبويب موضوعات النحو العربي .
أما المحدثون فقد انقسموا إلى مذهبين في بيان أصل فكرة العامل : الأول : يرى أن فكرة العامل فكرة دخيلة على النحو العربي من علوم أخرى ، ومنها علم الكلام ،والثاني : أن نظرية العامل نشأت نشأة لغوية عن طريق النظر والتتبع للتراكيب العربية
وأرى أن من ذهب إلى تأثر سيبويه بالمعتزلة فكراً ، وأنه معتزلي المذهب ، أمر غير ثابت ، مما يدفع تبنيه لأفكار المعتزلة في الكتاب ، هذا على حمل الكتاب لسيبويه ، وهناك من يرى أن الكتاب للخليل بن أحمد الفراهيدي ، أو جلّه ، وإذا ما علمنا أن الخليل واضع نظرية العامل منهجاً وأصولاً وفروعاً ، وكثيراً ما أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه ، فهذا يدفعنا إلى تسليط الضوء على الفراهيدي لبيان ماهية فكرة العامل ، أما من حيث المذهب فالخليل شيعي ، مما يدفع تأثره بالمعتزلة ، بل إنه قد أوجد علم العروض والمعجم بالنظر والتفحص وتتبع الأصوات وكلام العرب ، مع فطنته وذكائه وعقله الرياضي ، وقد ركزّ علماء العربية على النظر في الإعراب وما للعمل من أثر فيه ، مما قادهم ذلك النظر في التراكيب النحوية ومساراتها الأفقية إلى الاهتداء لنظرية العامل النحوي ، فالنظام الذي يحكم اللغة دفع النحويين إلى القول بالعمل من خلال ملاحظة الترتيب للألفاظ في التراكيب النحوية ، وتفاعلها وتأثيرها بعضها ببعضها الآخر.
وذهب الدكتور كريم حسين ناصح إلى أن العامل طريقة بناء الكلام بوضع الألفاظ بعضها مع بعضها الآخر ، الوضع الذي يقتضيه المعنى المقصود ، المعبر عنه بالعلامة الإعرابية . وفصل الدكتور في هذا التفسير ليصل إلى نتيجة أن العامل له ثلاثية تكوينية ، هي : ( المتكلم ، والمعنى ، وبناء الكلام ) ، فالمعنى الذي يقصده المتكلم لإفهام المخاطب به ، وتغير الأبنية التركيبية لتغير المعاني ، تعمل معا في ثلاثية ينتج عنها مفهوم العامل ، وكذا أثره الذي يحدثه في الجمل .
أشار سيبويه في الكتاب إلى عملية بناء الكلام في أكثر من موضع ، منها قوله : (( فإذا بنيت الفعل على الاسم قلت : زيدٌ ضربتُهُ ، فلزمته الهاء ، وإنما تريد بقولك مبني عليه الفعل أنه في موضع منطلقٌ ، فهو في موضع هذا الذي بني عليه الأول وارتفع به ، فإنما قلت عبدُ اللهِ فنسبته له ثَم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء )) .
وقد جمع سيبويه بين ( المتكلم ، والمعنى ، والبناء ) في أكثر من مسألة ، كما في حذف الفعل ( العامل ) في غير الأمر والنهي ، بقوله : (( وذلك قولك : أخذته بدرهم فصاعداً ، … كأنه قال أخذته بدرهم فزاد الثمنُ صاعداً … ولا يجوز أن تقول : وصاعدٍ، ولكنك أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أولاً ، ثم قررت شيئاً بعد شيء لأثمان شتى ، فالواو لم ترد فيها هذا المعنى )).
ففي النص المذكور آنفاً ذكر سيبويه العامل البنائي المحذوف ، وأن إرادة المتكلم هي التي تحدد البناء في ضوء المعنى المقصود .
وأشار الرضي إلى هذه الأجزاء الثلاثة للعامل ، فذكر أن المتكلم هو الذي يوجد المعاني النحوية ، وأن العامل آلة تركيبية خارجية ، جعلها النحويون هي الموجدة للمعاني المختلفة وعلاماتها ، وأن المعنى المقتضي هو الذي يقوّم العامل .
وأحسب أن ما ذهب إليه الدكتور كريم حسين ناصح الخالدي من ثلاثية العامل هو المطابق للواقع اللغوي ؛ إذ نرى سيبويه قد أكد دور المتكلم في إنشاء التراكيب على أنماط يقتضيها المعنى النحوي ، وأرى أن التفكير النحوي في نظرية العامل يقتضي وجود خطين متوازيين وللمتكلم سلطة في إيجادهما بالنسبة للتراكيب النحوية ، فالأول : خط موازٍ للوجود الخارجي للتركيب ، وهو الوجود الذهني للتركيب النحوي ، الذي يركّبه المتكلم بحسب المقاصد والمعاني المستهدفة ، والثاني : خط الوجود الخارجي اللفظي التركيبي الذي يحكي عن تلك المعاني النحوية الذهنية ، وهذا الوجود يختلف باختلاف المعاني ، فاقتضاء المعنى النحوي يؤدي إلى لزوم العمل النحوي التركيبي الخارجي ، وأن العامل في التركيب اللفظي تتمثل عامليته في إيجاد الموقعية من فاعلية ومفعولية ونحو ذلك ، وكذا الإعراب الذي هو علامة العمل ، فالعمل النحوي التركيبي الخارجي ( اللفظي ) يجلب الموقعية ، وجزءها الإعراب ، من رفع ونصب وجر وجزم ، فالعمل يتجلى بالموقعية والعلامة الدالة على جزء العمل ، من جهة العاملية .