التفكُّك الإيجابي: رحلة الفوضى الداخلية نحو النضج النفسي**
طالبة الماجستير : عذراء ناظم عبيد
*عنوان المقال: التفكُّك الإيجابي: رحلة الفوضى الداخلية نحو النضج النفسي**
**المقدمة**
في عالم يمجِّد الاستقرار والانسجام، تبدو فكرة أن تكون الفوضى النفسية طريقًا للنمو ضربًا من المفارقة. لكن نظرية **”التفكك الإيجابي”** (Positive Disintegration) التي صاغها الطبيب النفسي البولندي **كازيميرز دابروفسكي** تُقدِّم منظورًا ثوريًا: فالتفكك ليس انهيارًا، بل عملية ضرورية لتفكيك القيم السطحية وبناء شخصية أعمق وأصيلة. تتعمق هذه المقالة في مفهوم التفكك الإيجابي، مراحله، وكيف يمكن أن يُحوِّل الصراعات الداخلية إلى قوة دافعة للتطور البشري.
—
ما هو التفكك الإيجابي؟
التفكك الإيجابي نظرية في علم النفس التنموي ترى أن الصراعات الداخلية والاضطرابات العاطفية ليست علامات ضعف، بل **محركات أساسية للنضج النفسي والأخلاقي**. وفقًا لدابروفسكي، يمر الفرد بمراحل من “التفكك” حيث تتصادم قيمه القديمة (المبنية على التقاليد أو الضغوط الاجتماعية) مع قيم جديدة أكثر تعقيدًا وأصالة. هذا الصراع يُنتج أزمة وجودية، لكنها ضرورية لتجاوز مرحلة التكيُّف السطحي مع المجتمع وبلوغ مرحلة **”الشخصية المتكاملة”**.
—
المراحل الخمس للتفكك الإيجابي**
يصف دابروفسكي رحلة التفكك عبر خمس مراحل:
أ. التكامل الأولي (Primary Integration)
هنا يعيش الفرد وفقًا لقيم مُستقاة من البيئة الخارجية (العائلة، المجتمع) دون مساءلة. السمة الرئيسية: **الرضا السطحي** وغياب التساؤلات الوجودية.
ب. التفكك الأحادي (Unilevel Disintegration)
تبدأ التناقضات الداخلية بالظهور، مثل الصراع بين الرغبة في النجاح المادي والبحث عن معنى أعمق. يشعر الفرد بالحيرة لكنه لا يمتلك أدوات لحل التناقضات.
تتصاعد الأزمات النفسية، ويُدرك الفرد وجود **”مستويات” مختلفة من القيم** (بعضها أعلى أخلاقيًا). هنا تظهر مشاعر مثل الذنب أو القلق الوجودي، لكنها تُعتبر مؤشرات على النمو.
د. التفكك المنظم متعدد المستويات (Organized Multilevel Disintegration)
يبدأ الفرد في بناء هيكل قيمي جديد من خلال **اختيار القيم العليا** (كالعدالة، الإبداع، التعاطف) عن وعي. هذه المرحلة تتطلب جهدًا إراديًا لتجاوز الغرائز البدائية.
هـ. التكامل الثانوي (Secondary Integration)
الوصول إلى **الذات الأصيلة**، حيث تتناغم الأفعال مع القيم الداخلية بعيدًا عن الضغوط الخارجية. السمة الرئيسية: السلام الداخلي والقدرة على الإبداع غير المشروط.
—
القوة في الضعف: كيف تعمل الأزمات كمُحفِّزات؟
يرى دابروفسكي أن بعض السمات التي تُعتبر “مشكلات” في علم النفس التقليدي هي في الحقيقة أدوات للتطور، مثل:
– **القلق الوجودي**: دليل على الإحساس بمسؤولية أخلاقية تتجاوز الذات.
– **عدم الرضا الدائم**: محرك للبحث عن معنى يتجاوز الماديات.
**مثال تطبيقي**:
شخص يُعاني من اكتئاب بعد فشل مشروع عمل. في التفسير التقليدي، هذا اضطراب يجب علاجه. لكن وفقًا للتفكك الإيجابي، قد تكون هذه الأزمة فرصة لإعادة تقييم مفهوم “النجاح” وتبني قيم مثل الإبداع أو التوازن النفسي.
—
“الاستثارة الزائدة”: سمات تُسرع عملية التفكك**
حدد دابروفسكي خمس سمات تُسمى **”الاستثارة الزائدة”** (Overexcitabilities) تجعل بعض الأفراد أكثر عرضة للتفكك الإيجابي:
**الاستثارة العاطفية**: عمق المشاعر كالحب أو الحزن.
**الاستثارة الخيالية**: ميل إلى التفكير الرمزي أو الإبداعي.
**الاستثارة الحسية**: حساسية تجاه الجمال أو الأصوات.
**الاستثارة الحركية**: طاقة جسدية عالية تحتاج إلى توجيه.
هذه السمات تجعل أصحابها **غير مُرضين بالواقع السطحي**، مما يدفعهم إلى التفكك كطريق وحيد للارتقاء.
—
٥. أهمية النظرية في عالم اليوم**
في عصر تسوده المادية والسرعة، تقدم نظرية التفكك الإيجابي إجابات عن أسئلة مثل:
– لماذا يشعر الناجحون ماديًا أحيانًا بـ “الفراغ”؟
– كيف يمكن تحويل الألم إلى مصدر للإبداع؟
– لماذا تُنتج الأزمات (كجائحة كوفيد-19) تحولات جذرية في حياة البعض؟
*دراسة حالة*:
الكثير من الفنانين والعلماء (مثل فان جوخ أو نيتشه) عاشوا تفككًا إيجابيًا، حيث تحولت معاناتهم إلى أعمال غيرت العالم.
——-
*الخاتمة*
التفكك الإيجابي نظرية تُذكِّرنا بأن الإنسان ليس آلة تسعى للاستقرار فحسب، بل كائنٌ مُعقد تُثريه التناقضات. هي دعوة إلى عدم الخوف من الأزمات، بل اعتبارها فرصًا لـ **”مولد جديد”** لأنفسنا. كما قال دابروفسكي: *”لا يمكننا أن نولد من جديد دون أن نموت أولًا عما كنَّا عليه“