التناص الديني في خمريات أبو نؤاس: دراسة في التفاعل بين الشعر والدين
التناص الديني في خمريات أبو نؤاس: دراسة في التفاعل بين الشعر والدين
اسراء سلمان محي/ قسم اللغة العربية/ ماجستير ادب عربي
مقدمة
يعد الشاعر العربي أبو نؤاس من أبرز شعراء العصر العباسي الذين تميزوا بأسلوبهم الفريد والمتمرد على القيم الاجتماعية والدينية السائدة في زمانهم. وعُرف أبو نؤاس بشعره الذي جمع بين الهجاء، والتمرد، والانتقاد، واحتوى على إشارات إلى الفلسفة الحسية واللذات الجسدية، وفي مقدمتها الخمر. في شعره، لا يقتصر التناول على المتعة الدنيوية فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تفاعلات مع الديانة الإسلامية وطقوسها، ما يفتح المجال لدراسة ظاهرة التناص الديني في خمرياته.
ابو نؤاس
هو أحد أبرز الشعراء العرب في العصر العباسي، وأشهرُ شعراء الشعر الخَمْري في تاريخ الأدب العربي كله؛ حيث اشتهر بحبه الشديد للخمر ووَصْفه ببراعةٍ وكثرة الحديث عنه، لدرجةِ أنه أفرَدَ له في أدبه بابًا مستقلًّا.
وُلِد «الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي المذحجي» عام ١٣٩ﻫ/٧٥٦م ﺑ «الأهواز»، لأب دمشقي وأم فارسية، ولكنه نشأ بالبصرة وهو في عمر العامين. تُوفِّي أبوه وهو في سنٍّ صغيرة، فربَّته أمه وجعلته يعمل في العطارة وهو صبي، وأثناء عمله تعلَّم اللغةَ والأدب والشعر على يد أحد الشيوخ بالكتاب، هذا فضلًا عن دراسته علومَ الفقه والحديث وأحكام القرآن.
في سن الثلاثين من عمره، انتقل «أبو نواس» من البصرة إلى بغداد مقر الخلافة العباسية ومحط آمال الشعراء العرب وقتَذاك، وأصبح على علاقةٍ وطيدة بخلفاء «بني العباس» ومدَحهم في قصائده، خاصةً الخليفة «الأمين»؛ حيث كان نديمًا له.
أما عن شعره، فكان «أبو نواس» شُعُوبيًّا يزدري العربَ ويسخر من شِعرهم التقليدي المتمثِّل في الوقوف على الأطلال وبكاء الأحِبَّة، فدعا إلى التجديد فكان أول مَن هجَرَ الألفاظَ البدوية في شعره واستخدم الألفاظَ الحضَرية بدلًا منها، وقد غلب على قصائده ألوان الغزل والمدح، فضلًا عن الهجاء والرثاء والزهد. تُوفِّي «أبو نواس» في عام ١٩٨ﻫ/٨١٤م، ودُفِن في تل اليهود غرب بغداد.
مقهوم التناص الديني
إن كتاباً مقدساً مثل هذا له مكانة من البلاغة والفصاحة ومنزلته في القلوب واجتماع الأمة حوله لابد من أن يأسر الشعراء ويطغى على عقولهم وأن يتأثروا به في أشعارهم ذلك لأن القرآن الكريم أدب روح يسمو بالإنسان إلى عالم المادة.¹
ويأخذ بيده إلى السماء لينظر إلى الأرض نظرة تريه الحق حقاً والباطل باطلاً وتختلف نسب التأثر بالقرآن الكريم تبعاً للثقافة القرآنية التي اعتمدها هذا الشاعر أو ذاك، مقدار تواصله بوفد تلك الثقافة من الدراسات القرآنية المختلفة فمنهم من يكون تأثره في جانب معين، والآخر بجوانب أخرى ولكن المهم أن المؤثر هو القرآن الكريم كان قوياً واضحاً مستمراً وأن الأثر واضح من النتاج الشعري.
التناص الديني في شعر ابو نؤاس
ومن الألفاظ التي ارتبطت بمظاهر العبادة: (التسبيح، السجود، المحراب، التلبية، السعي)، وأبو نواس يستدعي هذه الألفاظ في شعره ويوظفها في خمرياته بدلالة جديدة.
وتصبح ألفاظ السجود والصلاة والتسبيح والتلبية من مظاهر الطاعة، ولكنها ليست طاعة العبد لربه المعبود، بل هي طاعة الساقي لشاربه أو طاعة الشارب لكأسه. ومن ذلك قول أبي نواس:
وليلةِ دجن قد سريت بفتيةٍتنازعها نحو المدام قلوبُ
إلى بيت خمار ودون محلهقصور منيفات لنا ودروب
إلى قوله :
وبادر نحو الباب سعيًا ملبيافأطلق عن نايبه وانكب ساجدًا
وقال: ادخلوا جنتي من عصابةله طربٌ بالزائرين عجيبُ
لنا وهو فيما قد يظنُّ مصيبُفمنزلكم سهلٌ لديَّ رحِيبُ
قال الساقي يسعى ويلبي ويسجد، ولكنه يسجد لعصابة خصصت وقتها لشرب الخمرة والتمتع بها، وهذه العبادات لا تؤدي إلا للمعبود، ولكن الشاعر يجعل هذه العبادات موجهة له ولعصابته، وهو بهذا يهدف إلى إعلاء شأنه وشأن صحبه فشربهم الخمر لا يقلل من قدرهم، بل يجب لهم السمع والطاعة وإفساح المجالس لهم لتكون رحبة تليق بمقامهم، وإذا كان الساقي يسجد لشارب الخمرة فإن الشارب يسجد لخمرة إذا أعطته ما يطلبه منها حيث يسجد لها، وفي ذلك يقول أبو نواس:
يُحرَّمُ لصرف الكأس في السُّكرِ ساجداًوإن مُزِجَت صلّى عليها وكبَّرا
فخمْرَتُه إن كانت صافية سجد لها وذلك بسبب شعاعها الناتج عن شدة صفائها مما يوجب ذلك الفعل لها، فإن مُزِجَت أصبحت الصلاة واجبة عليها؛ لأن المزج خفف عنها نورها المتألّق والتكبير عليها إشارة إلى فقدانها صفة من صفاتها وهي السُّكر.
ومن أمثلة التناص الديني الذي يتناوله الشاعر بالنقض والهدم حديثه عن مجموعة الآراء الفقهية تجاه عدد من المظاهر الدينية في الإسلام حيث (الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد) وموقف الإسلام من الخمر وقد ظهر ذلك في خمرية التي هي بعنوان فتوى فقيه حيث يقول:
في هذه الأبيات، يُعبّر الشاعر أبو نؤاس عن حواره مع رجل دين، حيث يُستهل الحديث بتوجيه الشاعر كلامه إلى “العذول” (الناصح أو اللائم) في “حانة الخمار”، مشيرًا إلى أن شرب الخمر هنا يتزامن مع الاستمتاع بالموسيقى والغناء، مما يعكس سلوك الشاعر في التمتع باللذات الحسية. ثم يروي الشاعر أنه توجه إلى “فقيه عالم”، وهو رجل دين متعمق في دينه، يعرف أحكام الشريعة ويُظهر ثقافة علمية واسعة.
يسأل الشاعر الفقيه عن شرب النبيذ، فيرد عليه الفقيه بأن ذلك محرم ويصفه بـ”عقار”، وهو الشراب الذي يسبب الضرر. ثم يسأله عن الصلاة، فيجيب الفقيه بأنها فرض واجب، ويحثه على الصلاة بالطريقة الصحيحة. في تتابع الحوار، يسأل الشاعر الفقيه عن كيفية قضاء الصلاة والصيام في حال عدم القدرة على إتمامهما في وقتهما، فيجيبه الفقيه أنه يمكنه جمع الصلاة وقضاءها في النهار إذا فاتته في الليل.
عندما يسأل الشاعر عن الصيام، يرد الفقيه بأنه لا ينبغي أن يُنهِك نفسه بالصيام إلا إذا كان ذلك فرضًا، ويحثه على أن يشدد عزمه على الإفطار عنده. وفي النهاية، يسأله الشاعر عن الزكاة والصدقة، فيجيب الفقيه بأنها تعتبر عادة لا تحمل قيمة كبيرة في نظره.
المعنى العام للأبيات هو أن الشاعر يُظهر في هذه الأبيات صراعًا داخليًا بين التوجه نحو اللذات الحسية وبين الإجابات الدينية الصارمة التي يقدمها الفقيه، مما يعكس الصراع بين الروحانية والتمتع باللذائذ الدنيوية في شعر أبي نؤاس.
الخاتمة
في ختام هذا البحث حول “التناص الديني في خمريات أبو نؤاس”، نجد أن الشاعر قد أسهم في خلق حالة من التفاعل المتميز بين الشعر والدين في عصره. لقد استخدم أبو نؤاس التناص الديني في شعره ليس فقط للتعبير عن تمرده على القيم الدينية والاجتماعية، بل أيضًا لطرح صراعاته الداخلية بين العوالم الروحية والدنيوية. من خلال الاستعانة بالرموز الدينية وموضوعات العبادة، مثل الصلاة والصيام والزكاة، سعى الشاعر إلى إعادة تفسير هذه المفاهيم بطريقة تتلاءم مع توجهاته الشخصية، مما جعل شعره يبرز كأداة نقدية تجاه المفاهيم التقليدية التي كانت سائدة في عصره.
تظهر خمريات أبو نؤاس كمرآة لصراعات ثقافية ودينية معقدة، حيث تتداخل مفاهيم الطاعة والتمرد، والروحانية واللذة المادية. وقد أظهر من خلال تفاعله مع مفردات الدين كيف يمكن للمرء أن يعيد تشكيل معاني تلك المفردات ليتواءم مع رغباته الخاصة. وقد كانت خمرياته بمثابة محاولة لتحدي السلطة الدينية والاجتماعية التي كانت تؤطر حياة المجتمع العباسي، مُظهرةً من خلالها تأثيراتها العميقة في الشعر العربي الكلاسيكي.
وبناءً على ذلك، فإن دراسة التناص الديني في شعر أبي نؤاس تساهم في فهم أعمق للتغيرات الثقافية والفكرية التي شهدها العصر العباسي، وتؤكد على دور الأدب في طرح التساؤلات حول الدين والمجتمع.
المصادر
نورة ح. (2019). التناص الديني في شعر مفدي زكريا –اللهب المقدّس أنموذجا. مقامات للدراسات اللسانية و الأدبية و النقدية, 3(1), 1-19. https://asjp.cerist.dz/en/article/129240
أنيس، محمد. (2009). ديوان أبو نؤاس . دار مهارات للعلوم. حمص. سورية.
خمريات ابو نؤاس ومسلم بن الوليد (دراسة اسلوبية)، سعاد يوسف محمد، جامعة الخليل، 2012م.