في رحاب شبه الجزيرة الإيبيرية ، حيث تلتقي حضارات الشرق والغرب، ازدهرت مملكة الأندلس لقرونٍ طويلةٍ كواحدةٍ من أبرز النماذج التاريخية للتعايش الثقافي والديني. بين القرنين الثامن والخامس عشر، شكَّلت الأندلس فسيفساءً إنسانيةً جمعت بين المسلمين والمسيحيين واليهود، أنتجت مزيجًا فريدًا من العلم والفنون والهندسة، ما زال العالم يستلهم منه حتى اليوم.
الأندلس أرض اللقاءات
عندما دخل المسلمون شبه الجزيرة الإيبيرية عام 711م، لم يُنشئوا مجتمعًا منعزلًا، بل أسسوا نظامًا اجتماعيًّا قائمًا على مبدأ “الذمة”، الذي ضمن لغير المسلمين حرية ممارسة شعائرهم الدينية مقابل دفع الجزية. لم يكن هذا التسامح مجرد سياسة إدارية، بل نتاج رؤيةٍ قرآنيةٍ تؤكد على “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: 256)، مما سمح بظهور مجتمعٍ تعددي. في ظل الدولة الأموية في قرطبة (929–1031م)، بلغ التعايش ذروته، حيث عمل المسلمون واليهود والمسيحيون –المعروفون باسم “المستعربين”– جنبًا إلى جنب في مجالات الطب والفلك والترجمة. يقول المؤرخ (ماريا روزا مينوكال) في كتابها “الزخرفة العالمية”: “كانت قرطبة مدينةً تتقاطع فيها اللغات والأديان، حيث تُقرأ التوراة والعربية والإغريقية في مكتبة واحدة”.
التفاعل العلمي جسر بين الحضارات
أصبحت الأندلس جسرًا لنقل المعارف بين الشرق والغرب، بفضل حركة الترجمة النشطة التي قادها علماء من جميع الأديان. في طليطلة، على سبيل المثال، تعاون اليهود مثل يهوذا بن تبون مع مسلمين مثل ابن رشد لترجمة أعمال أرسطو وجالينوس من العربية إلى اللاتينية، مما أضاء شعلة النهضة الأوروبية لاحقًا. وفي مجال الطب، اشترك الطبيب اليهودي موسى بن ميمون مع الأطباء المسلمين في تطوير علاجاتٍ مبتكرة، بينما قدَّم الراهب المسيحي أفنديث ترجماتٍ لكتب ابن سينا إلى القشتالية. حتى في العمارة، تجلَّى هذا التمازج في طراز المدجَّن، الذي مزج بين الزخارف الإسلامية والأقواس القوطية، كما في قصر( إشبيلية Alcázar).
الفنون والأدب لغة مشتركة
لم يكن التعاون مقتصرًا على العلوم، بل امتد إلى الفنون. ففي الشعر، تأثرت الموشحات الأندلسية بالألحان المسيحية، وظهر نوعٌ أدبيٌ جديدٌ سمي “الزجل” ، كتبه شعراء مسلمون بلهجة عاميةٍ مزيجةٍ من العربية والرومانسية. أما الموسيقى، فقد طوَّر زرياب – الفارسي الأصل– آلة العود، وأدخل أنماطًا إيقاعيةً لا تزال أساس الموسيقى الإسبانية (الفلامنكو). حتى في الحياة اليومية، كانت اللغات الثلاث (العربية والعبرية والمُوزَارَبية لهجة مسيحيي الأندلس) تُستخدم في الأسواق والمحاكم، وفقًا لسجلات القاضي ابن سهل الإشبيلي، الذي دوَّن قضايا قانونية بين أفراد من ديانات مختلفة.
فترات التوتر الصراع الذي لم يمحو التعايش
لم تخلُ الأندلس من فترات صراع، خاصة مع صعود دول الطوائف ثم حكم المرابطين والموحدين، الذين فرضوا تفسيرًا أكثر تشددًا للإسلام. لكن حتى في تلك الفترات، استمرت جيوب التعاون، كما يظهر في قصيدة الشاعر اليهودي شموئيل هنجيد، الذي مدح ملوك غرناطة المسلمين، أو في تحالف الملك المسيحي ألفونسو العاشر مع علماء المسلمين لإنجاز “مدرسة المترجمين” في طليطلة.
إرث الأندلس: دروسٌ للعالم المعاصر
سقطت غرناطة، آخر معاقل المسلمين، عام 1492م، وبدأت حقبةٌ من الاضطهاد الديني تحت حكم محاكم التفتيش. لكن إرث الأندلس بقي شاهدًا على أن التعايش ليس مستحيلًا. اليوم، تُذكِّرنا أسماء المدن مثل “شريش” (من العربية “شريش”) و”مدريد” (من “مجرى”) بأن الحضارة تُبنى بالتعدد، لا بالإقصاء.
المراجع
1-María Rosa Menocal, The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain.
2-Richard Fletcher, Moorish Spain.
ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والألاف.
محمود علي مكي، الأندلس: من الفتح إلى السقوط.
د. حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس.
. 6- Chris Lowney, A Vanished World: Medieval Spain’s Golden Age of Enlightenment.