التيسير في المعجمات العربية ، (مدرسة العين) أنموذجًا :
أ.د. حيدر عبد علي حميدي
قسم اللغة العربية /كلية التربية للعلوم الإنسانية /جامعة كربلاء
لا يخفى علينا أنّ لغتَنا العربيةَ ضمتْ الكثيرَ من المعجماتِ، وكلُّ معجمٍ منها سارَ على نظامٍ معينٍ في ترتيبِ ألفاظِه، انتظمتْ هذه المعجماتُ على شكلِ مجموعاتٍ، تُعرفُ باسمِ (مدرسة)، كلُّ مدرسةٍ منها لها طريقتُها الخاصّةُ بها في ترتيبِ ألفاظِها، ما اختلافُ طرقِ تأليفِ هذه المعجماتِ إلا لغايةٍ تيسيريةٍ؛ يرومُ أصحابُها من خلالِها أن يجعلوا الباحثَ يصلُ إلى غايتِه بصورةٍ سهلةٍ يسيرةٍ ؛ إذ إنّ كثرةَ وجودِ المعجماتِ في اللغةِ العربيةِ كانت لغايةٍ تيسيريةٍ، وليست اعتباطيةً، مع تنوعِ طرقِ التيسيرِ المتبّعةِ، وأهمُها ابتكارُ منهجٍ لترتيبِ مفرداتِ المعجمِ ؛ لأنّ من أهدافِ المعجميينَ و اللغويينَ المهمة في تقعيدِ القواعدِ المعجميةِ التيسيرِ والسهولةِ للباحثِ عن كلامِ العربِ أو جزءٍ منه ، لذلك ظهرت لدينا مجموعةٌ من معجماتِ اللغةِ لتقومَ بهذه المهمةِ، انتظمتْ في مجموعاتٍ(مدارس)، كلُّ مجموعةٍ منها سارت على منهجٍ معيّنٍ؛ قصدتْ التيسيرَ في تقديمِ ألفاظِ اللغةِ إلى الباحثينَ  ، ومن بين هذه المدارس المعجمية (مدرسة العين).
عندما أرادَ الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديّ(ت175هـ) أنْ يضعَ معجمًا لغويًّا كانَ أمامَه نظامانِ لترتيبِ المفرداتِ، هما: النظامُ الأبجدي القديمُ (أبجد هوز…)، والنظامُ الألفبائي الحديثُ(أ ب ت ث…)، لم يقنعْ الفراهيدي بهذينِ النظامينِ ليجعلَ أحدَهما نظامًا يؤلّفُ عليه معجمَه؛ لأنَّ النظامَ الأوّلَ يبدأ بالهمزةِ ” ذلك الحرفُ الذي هزمَ أستاذَه أبا عمرو بن العلاءِ، و أتعبَ كلَّ من تصدّى له، ولا صورةَ ثابتةً له في النطقِ أو الكتابةِ “. لذلك وجدَ الفراهيدي هذا الترتيبَ -بهذه الكيفيةِ- “علميًّا منطقيًّا سهلًا قريبًا من الحفظِ لا تتداخلُ فيه الأشياءُ وتمتزجُ دونَ صلةٍ أو تشابهٍ؛ فرغِبَ في ترتيبِ الحروفِ على المخارجِ “، وهو بهذا الترتيبِ الصوتي ركنَ إلى نظامٍ ثابتٍ لا يشوبُه التغييرُ، بخلافِ لو بدأ الترتيب بالنظامِ الأبجدي القديمِ، أو النظامِ الألفبائي الحديثِ لكانَ قد بدأ بصوتٍ لا يثبتُ على حالٍ واحدةٍ، وهو (الهمزةُ) أو (الألفُ).
زِدْ على ذلك أنَّ لهذا الترتيبِ الصوتي الذي ابتكره الفراهيدي ميزتينِ أخرَيينِ، هي:
  1. استطاعَ الفراهيدي أن يجمعَ الأصواتَ المتشابهةَ بالنطقِ، فأصبحت الحاء قربَ الهاءِ، والخاء قربَ الغين .
  2. إنّ الأصواتَ المتشابهةَ في المخارجِ، لا يمتزجُ بعضُها مع بعض في تأليفِ الألفاظِ إلا نادرًا. لذلك نجدُ الفراهيدي يقولُ مثلًا: ” إنّ العينَ لا تأتلفُ مع الحاء في كلمةٍ واحدةٍ لقربِ مخرجيهما إلا أن يُشتقَّ فعلٌ من جمعٍ بين كلمتينِ مثلُ(حيَّ على)… تقولُ منه: حيعلَ يحيعِلُ حيعلةً “.
بعدَ أن اختارَ الفراهيدي النظامَ الذي يسيرُ وفقَه في ترتيبِ الكلماتِ في معجمِه، قسّمَ المعجمَ على مجموعةِ كتبٍ، كلُّ صوتٍ يمثّلُ كتابًا، على النحوِ الآتي: (كتاب العين، وكتاب الحاء، وكتاب الهاء… ألخ)، ثمَّ فكّرَ في كيفيةِ ترتيبِ المفرداتِ داخلَ الكتابِ الواحدِ ” ولم يجشمْه ذلكَ مشقّةً إذ كانَ الصرفيونَ قد فرغوا منه. فالكلماتُ العربيةُ إمّا ثنائيةٌ أو ثلاثيةٌ أو رباعيةٌ أو خماسيةٌ ولا شيءَ غيرُ ذلك … فجعلَ هذه الأبنيةَ أساسَ تقسيمِ الكتبِ إلى أبواب”.
 أرادَ الفراهيدي أن يحصرَ الكلماتِ داخلَ كلِّ بناءٍ من الأبنيةِ التي ذكرَها في كلِّ كتابٍ، ذلك الحصرُ الذي يضمنُ له معرفةَ الأبنيةِ المستعملةِ والمهملةِ في كلامِ العربِ، فاهتدى بفكرِه الرياضي إلى نظامِ التقاليبِ، وسمّيَ بهذا الاسمِ؛ لأنّه كانَ يقلّبُ حروفَ الكلمةِ الواحدةِ في مواضعَ مختلفةٍ فرأى أنَّ حرفَ العينِ –مثلًا- يمكنُ أن يكونَ في موضعينِ في البناءِ الثنائي ، فيمكنُ أن يكونَ الحرفَ الأولَ ، و يمكنُ أن يكونَ الحرفَ الثاني، وفي البناءِ الثلاثي يكونُ في ثلاثةِ مواضعَ أولًا أو ثانيًا أو ثالثًا، وفي البناءِ الرباعي يكونُ في أربعةِ مواضعَ أولًا أو ثانيًا أو ثالثًا أو رابعًا، وفي البناءِ الخماسي يكونُ في خمسةِ مواضعَ أولًا أو ثانيًا أو ثالثًا أو رابعًا أو خامسًا. وعلى نحوِ الحسابِ الرياضي يكونُ الناتجُ كما هو موضّحٌ في أدناه:
  1. البناءُ الثنائي ليس له إلا وجهانِ.
  2. البناءُ الثلاثي له ستةُ وجوهٍ؛ إذ لكلِّ حرفٍ وجهانِ، وناتجُ ضربِ وجهينِ في ثلاثةِ أحرفٍ هو ستةُ وجوهِ.
  3. البناءُ الرباعي له أربعةٌ و عشرونَ وجهًا؛ إذ لكلِّ حرفٍ ستةُ وجوهٍ، وناتجُ ضربِ ستةِ وجوهٍ في أربعةِ حروفٍ هو أربعةٌ و عشرونَ وجهًا.
  4. البناءُ الخماسي له مائةٌ وعشرونَ وجهًا، إذ لكلِّ حرفٍ أربعةٌ وعشرونَ وجهًا، وناتجُ ضربِ أربعةٍ وعشرينَ وجهًا في خمسةِ حروفٍ هو مائةٌ وعشرونَ وجهًا.
وإذا بحثنا عن سببِ تأليفِ الفراهيدي لمعجمِه وجدناه أرادَ أن ييسّرَ على الباحثينَ عن معاني الكلماتِ في اللغةِ، إذ نجدُه يصرّحَ بهذا الأمرِ في قولِه: “بدأنا في مؤلفِنا هذا بالعينِ وهو أقصى الحروفِ، ونضمُّ إليه ما بعدَه حتى نستوعبَ كلامَ العربِ الواضحِ والغريبِ. وبدأنا الأبنيةَ بالمضاعفِ؛ لأنّه أخفُّ على اللسانِ وأقربُ مأخذًا للمتفهمِ”، فجمعُ الكلماتِ في معجمٍ على وفقِ نظامٍ وترتيبٍ معينينِ –بعد أن كانت هذه الكلماتُ عشوائيةً- يعدُّ تيسيرًا بحدِّ ذاتِه على جميعِ الباحثينَ في كلماتِ اللغةِ.
استطاعَ الفراهيدي –في ضوءِ ترتيبِ الأبنيةِ- أن يستقصيَ كلَّ الأبنيةِ التي استعملَها العربُ في كلامِهم، وهي فكرةٌ غايتُها التيسيرُ على الباحثِ في المعجمِ، وكذلك استطاعَ بوساطةِ نظامِ التقليباتِ الذي سارَ عليه في كلِّ بناءٍ أن يحصرَ الكلماتِ المستعملةَ والمهملةَ في كلامِ العربِ؛ ” ليتيسّرَ بذلك الحصرُ ولا يكرر شيئًا منها”.
مصادر المقالة :
  1. أولية تدوين المعاجم وتاريخ كتاب العين المروي عن الخليل بن احمد، يوسف العش ، بحث منشور في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، العدد10، 1941م.
  2. كتاب العين ، الفراهيدي أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد (ت175هـ)، ، تحقيق:د.مهدي المخزومي و د.إبراهيم السامرائي، دار الرشيد، العراق،1400هـ-1980م.
  3. المعجم العربي نشأته و تطوره ، د.حسين نصّار، ط4 ،دار مصر للطباعة ، 1988م.


شارك هذا الموضوع: