التَّيسيرُ النَّحويُّ والفقهيُّ
    الطالب: قاسم عبيد حمزة
جامعة كربلاء/ كلية التربية للعلوم الإنسانية  
        دكتوراه / لغة
 
لغتنا العربية في نظرنا مجموعة من القواعد البالغة التعقيد، وينجم عن هذا التعقيد مجموعة من الجمل اللامتناهية؛ لذلك برزت نظريات الألسنية ودراسات متعمقة في هذا المنوال؛ لتنظم قواعدًا وتضع تغيرات، ولا يكون ذلك إلاَّ بالتطبيق الوافي في نطاق لغتنا، 
فما نراه اليوم من حقيقة يجب أن تقال بكل صراحة وموضوعية بأنَّ الدراسات السابقة التي تبنَّاها علماؤنا الأجلاء لم تعد وافية وشافية في منظور تحليل اللغة في عصرِنا هذا ، رُبَّما يعود ذلك للتطور الذي شهده العالم؛ إذ إنَّ اللغة علم حالها حال العلوم الأخرى، وهذا لا يعد قدحًا لعلمائنا القدماء بل على العكس من ذلك فقد كانت لهم اليد الطولى في الحفاظ على أكثر ثغور العربية في عصر كثُر فيه الاحتجاج؛ لكن النظريات اللسانية الحديثة نراها سلاحًا يتسلح بها منْ أراد سِبر القضايا المتعلقة بتفسير اللغة ، كما يبدو أنَّ علماء اللغة الأوائل قد كانت تحليلاتهم في تفسير اللغة مبنية على منطلقات علمية فلسفية، وخير مثال كتاب سيبويه ، ولا شكَّ من أن تكون هذه المنطلقات متطورة وجديدة في عصرهم ، مما يتضح لنا أنَّ مفاهيم اللسانيات في عصرنا هذا ليست دخيلة على تراثنا اللغوي ، فمن الجدير بنا أن نعيد اعادة النظر من جديد في تحليل لغتنا العربية على مسار التطورات اللسانية العلمية الحديثة والسعي من اجل الحصول على  لسانيات عربية تكون قادرة على تفهّم موضوعات اللغة ووضع الحجر الأساس من أجل الدراسة والتحليل ، فمن الضروري أن يشعر الفرد العربي بحاجة إلى تفهّم قضايا اللغة ووضع الافتراضات والمعايير؛ لكي تكون سلسة وواضحة للعربي ولكل منْ يرغب بدراستها ، وهذا لا يعني أنَّ القواعد التي تقدّمها اللسانيات الحديثة هي قواعد كاملة تهيمن على الجملة ؛ إذ إنَّ هناك معوقات جمّة لا بُدَّ من تذليلها وهذا بحاجة إلى جهود مكثّفة ، فنستطيع أن نقول أنَّ النظريات التي جاءت بها الدراسات الحديثة تُعد محاولة لتحقيق أكبر قدر من قواعد اللغة يمكن التوصّل إليها، وهناك نظريات قامت بتحديد الاشارات والعلاقات بين المعجم والنّحو، وهنا لا بُدَّ من التأكيد على سمات المعجم للمفردة في مختلف تمثيلاتها النّحوية التي ترد فيها()، فالعلاقة بين النحو والدلالة لم تكن وليدة الدراسات اللسانية الحديثة ؛ إذ إنَّ هذه العلاقة شغلت الفلاسفة والعلماء ، فنجد أرسطو قد تحدّث عن العلاقة بين اللغة والمعنى فالكلمات منذ أرسطو اشارات أو رموز لمعنى الشيء ()، 
ولا يمكن أن ننسى الفضل لعبد القاهر الجرجاني(ت471ه) من توثيقه للصلة بين الصياغة والمعنى()، كما وجدنا تشومسكي قد جعل النَّحو مُستقلًّا عن الدَّلالة؛ إذ قال : ” ويفضل أن يصاغ علم القواعد على أنَّه دراسة قائمة بذاتها مستقلة عن علم الدلالة ، فلا يمكن أن تشخّص فكرة قواعدية بالشيء الذي له معنى” ()، كما قال بصدد ذلك : ” لقد دخلنا أرضًا وعرة حين قلنا : إنَّ البنية النحوية يمكن أن تزودنا ببعض المعرفة عن مسائل المعنى والفهم ، إذ ما في الدراسة من جانب عانى من الإرباك وهو بحاجة إلى التوضيح والصياغة الدقيقة أكثر من ذلك الذي يعالج مسائل الربط بين النحو والدّلالة ()، 
كما يرى الدَّلالة خطوة ميسّرة لوضع نظرية للتلاقي بين بين النحو والدلالة()، هذا دليل على أنَّ العلاقة بين النَّحو والدَّلالة موجودة عند تشومسكي إلَّا أنَّه لا يعدُّها أساسًا في التَّحليل التَّركيبي ()، 
 
التيسيرُ لغةً :  اليَسِر: السَّهل (), واليُسر: ضدُّ العُسر ()،وفي قوله تعالى : ” وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” ( البقرة : 185 )،  كما قالت العرب: قد يسَّرت الغنم, إذا تهيأت للولادة()، وفي قوله تعالى : ” فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ” (الليل : 5-7)  أي : سنهيّئه للعوْدة إِلَى الْعَمَل الصَّالح ().
 
التَّيسير اصطلاحا :
لا شكَّ في أنَّ مصطلح التيسير قد شغل حيزًا واسعًا في الفقه الاسلامي؛ لِإزالة الحرج عن المسلمين، وخير دليل قولُه تعالى: ” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ” ( البقرة : 185 ) ، فالتَّيسير هنا: هو الالتفات من العسر إلى اليسر؛ لِحُجَّة المُكلَّف.
التـّيسير النّحوي : 
     لقد نال النَّحو العربي عنايةً فائقةً لم يشهدها نحو غيره، فقد تعدَّدت مدارسُهُ وكتبُهُ من منثور ومنظومٍ، وهذا ليس بغريبٍ، فاللغة العربية قد ذهب إلى تعلُّمِها وضبطِها والابتعاد عن اللحن فيها الكثير من النَّاس؛ إذ إنَّها لغة القرآن الكريم وقد مثَّلت الاتِّجاه الدِّيني للحياة البشريَّة، فيمكن أن يُعدَّ هذا إرثًا حضاريًّا تركه لنا القدماء، ولا ننكر من وجود صعوبة وفلسفة بيِّنة قد تناسب اهل الاخصاص إلَّا أنَّها  عسيرة عند العامة ()، ولِهذا جاءت كتب التَّيسير في النَّحو منها كتاب (الرد على النُّحاة) لابن مضَّاء القرطبي(ت: 592ه)، والذي جاء فيه بقولهِ: ” قصدي في هذا الكتاب أن احذف من النّحو ما يستغني النّحوي عنه , وأنبه على ما اجمعوا على الخطأ فيه فمن ذلك ادعاؤهم أنَّ النـّصب والخفض والجزم لا يكون إلا بعامل لفظي , وإنَّ الرَّفع منهما يكون بعامل لفظي وبعامل معنوي وعبـّروا عن ذلك بعبارات توهم في قولنا : ( ضرب زيد عمرا ) أنّ الرّفع الذي في زيد والنـّصب الذي في عمر إنَّما أحدثه ضرب … وذلك بين الفساد “()
 التَّيسير الفقهي:
 لا شكَّ في اختلاف التَّيسير باختلاف حُجج العباد، وهنا يكون التَّيسير على نوعين: أحدهما: تيسير العمل مع بقاء الحرمة كإمرار لفظة الكفر على اللسان مع بقاء طمأنينة القلب حين الإكراه، وثانيهما: تغيُّر صفة العمل كإباحة أكل الميتة حال الاضطرار()، كما أنَّ التيسير يكون شاملًا لِأمور الدِّينِ كلِّها، كما في قوله تعالى : ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” (البقرة : 185 )  وهذا ما ذهب إليه القرطبي ( ت:671 هـ )()، كما أنَّ الله جلَّ وعلا لا يُكلِّفُ عباده ما لا يطيقون ولا يلزمهم في شيءٍ إلَّا وجعل لهم مخرجًا كما في قولِهِ تبارك وتعالى: ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ” ( الحج : 78 ) , فالأحكام الشَّرعية قد أنتجت قواعدًا أُصوليَّةً يبدو أبرزها(العناء يجلب التيسير) وعلى أساس هذه القواعد يخرج التَّيسير في الشَّرائع الاسلاميَّةِ (), وعلى هذا فقد حصل التَّيسير على اهتمام كبير في المجال النَّظري والتَّطبيقي؛ لهذا وسم رجال القضاء جلب التَّيسير بالرُّخَص ().
 

شارك هذا الموضوع: