التّفسير الموضوعيّ
وريادة مدرسة أهل البيت
أ.د. حسن عبد الغني الأسدي
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الإنسانيّة
عُرِّف التّفسير الموضوعيّ بعدد من التّعريفات فقد قيل إنّه:
بيان ما يتعلق بموضوع من موضوعات الحياة الفكريّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة من زاوية قرآنيّة للخروج بنظريّة قرآنيّة بصدده.
-وعرفه بعضهم بقوله: هو جمع الآيات المتفرّقة في سورة القرآن المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا وتفسيرها حسب المقاصد القرآنيّة.
-وقيل: هو بيان موضوع ما من خلال آيات القرآن، الكريم في سورة واحدة أو سورة متعدّدة.
-وقيل: هو علم يبحث في قضايا القرآن الكريم، المتحدة معنى أو غاية، عن طريق جمع آياتها المتفرقة، والنظر فيها، على هيئة مخصوصة، بشروط مخصوصة لبيان معناها، واستخراج عناصرها، وربطها برباط جامع.
-وقيل: هو علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنيّة من خلال سورة أو أكثر(مباحث في التفسير الموضوعي:16).
فالمفسّر عبر هذا المنهج يستطيع أنْ يقدّم الرؤية القرآنيّة المتعلّقة بكلّ موضوع من الموضوعات التي وردت فيه. أو كلّ موضوع من موضوعات الحياة الإنسانيّة، وهو ما تفتقر إليه الطريقة السّائدة في التّفسير الّتي وصفها الصّدر الشهيد الأوّل بالاتّجاه التّجزيئيّ، وأطلق عليه آخرون التّفسير الترتيبيّ (ينظر: مناهج المفسرين:146؛ ونفحات القرآن:5).
فيمكن للمفسّر أن يعرض “الأسس العامّة للنّظرة المتكاملة لقضايا الإيمان الأساسيّة، وما يتعلّق بها، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر. كما يبيّن الأسس العامّة لمختلف الأنظمة كنظام العبادة، والنّظام الاجتماعيّ، والنظام الاقتصاديّ، والنظام الأخلاقيّ، ونظام الحكم) الوحدة الموضوعيّة في القرآن الكريم، والسّورة القرآنية:16).
ويلحظ ههنا أنّ هذا التّوجّه قريب لتوجّه ” الحقول الدلاليّة” في الحقل اللغويّ المعاصر. إلّا أنّ هذا الأخير يقوم على رصد المفردات المتعلّقة بحقل من الحقول ورصد علاقاتها وتبايناتها بينما الأمر أوسع في التّفسير الموضوعيّ القائم في الأصل عل رصد الآيات التي تناولتْ الموضوع المعيّن، أي رصد كتلة الآيات وتوجهاتها لرسم معالم قرآنيّة لمسارات هذا الموضوع، وهو نظر عميق في تناول الآيات القرآنية وفق هذا التصنيف الموضوعي والمقاصدي.
ويبدو أن ريادة التصنيف في هذا المسار تُسجّل لأتباع أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلامُ) فقد قادنا تتبع الدراسات في هذا الجانب وتأصيلها إلى أنّ كتاب “آيات الأحكام: لأبي نصر محمد بن السائب بن بشر الكلبي من أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق عليهما السَّلام (ت146هـ)، وهو والد هشام الكلبي النسابة الشهير، وصاحب التفسير الكبير الذي هو أبسط التّفاسير كما أذعن به السيوطي في الإتقان(مفاهيم القرآن ١٠/٣٦٩) يمثّل خطوة السبق ههنا. وقد ذكره ابن النديم في الفهرست؛ فعلى ذلك يعدّ محمد بن السائب الكلبيّ “هو أوّل من صنّف في هذا الفن لا الإمام الشافعي محمّد بن إدريس المتوفّى سنة (ت204هـ) كما زعم السيوطي، وكيف لا يكون كذلك وقد توفّى الكلبي قبل ولادة الشافعي بأربع سنين حيث ولد الشافعي عام 150هـ(مفاهيم القرآن١٠/٣٦٩).
وذكر محمد حسين الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) عند ما تطرّق إلى تفسير (كنز العرفان في فقه القرآن) لمقداد السيوريّ مفارقته لغيره ممّن ألّف في أحكام القرآن، وتوجهه إلى جهة موضوعيّة، فهو لا يَتماشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف كما فعل الجصّاص (ت370هـ)، وابن العربي (ت543هـ).
وقد وقف العلامة جعفر سبحاني على جهد لصاحب بحار الأنوار العلامة محمّد باقر المجلسيّ( ت1111هـ) في هذا الجانب، خرج منه إلى القول: “ولو انتشر هذا القسم من البحار في جزء مستقِّل ربّما يكون مفتاحاً للتّفسير الموضوعيّ فهو (قدَّس سرَّه) قد استخرج الآيات حسب الموضوعات، وشرحها بوجه إجماليّ؛ ولكن النّمط الأوسط منه هو قراءة القرآن من أوّله إلى آخره، والدقة في مقاصد الآيات، ثم تصنيف الآيات حسب ما ورد فيها من الأبحاث والموضوعات، ففي هذا النوع من التفسير تستخرج الموضوعات من الآيات ثم تصنّف الآيات حسب الموضوعات المستخرجة، وهذا بخلاف ما قام به العلامة المجلسي، فهو صنّف الآيات حسب الموضوعات على ضوء ما جادتْ بها فكرته، أو جاءت في كتب الأحاديث والأخبار”(المناهج التفسيرية في علوم القرآن:144).
وبدوافع من متطلبات خطاب التّنوير الذي انتحاه جماعة من العلماء في إعادة طرح المسائل الإسلاميّة، وإظهارهم للرؤية القرآنيّة فيما يهمّ المجتمع وعلاقات أفراده وجدنا أنّ الشّهيد الصّدر بدأ بطرح رؤيته الجديدة في التّفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم مؤسّساً إيّاه في ظلّ مفهوم الاستخلاف القرآنيّ، فهذا المنحى كما رآه الصّدر وسيلة لأنْ يقدّم المفسّر نظريات القرآن الكريم في كلّ ما يعرض لحياة الإنسان من حوادث، عبر تتبُّع متعلِّقات الموضوع في القرآن كلّه، وجمعها لاستنطاقها، ومن ثمّ الخروج بالتّصور القرآنيّ للموضوع بأكمله. فالمفسّر الموضوعيّ بحسب مفهوم الصّدر ينطلق من الواقع إلى داخل القرآن، مع احترازه أنْ يتمّ فهم الآيات فهماً قصْريّاً خاضعاً لمراد المفسّر.
لقد كان الخطاب الذي عقده التنويريّون، في القَرْنَين المُنصرمين، ومنهم الشّهيد الصّدر مع مجتمعاتِهم يَنْصبُّ على تفعيلِ قِيم الدّين الإسلاميّ، واعتباراته في الحياة، لذا أصبحتْ الأنَا الإسلاميّة في العصر الحديث بأمسّ الحاجة إلى أنْ تَطرق مفاهيمُها الأسماعَ بأدق الوسائل العلميّة؛ وبما يناسبها من مناهج “..لأن الإسلام أصبح بحاجة إلى أنْ يُعرض كنظرية مذهبيّة جاء بها الرّسول محمّد(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) عن طريق الوحي، وذلك من أجل مواجهة النّظريات المذهبيّة الأخرى، ومن أجل أنْ يتّضح مدى صلاحيته لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة، وصلته بتلك النّظريات المذهبيّة. كما أنّ فهم الإسلام كنظريّة عامّة هو الذي يُيسر لنا سبيل أنْ نتبناه نظاماً للحياة..(علوم القرآن:278).
ومن هنا يجب أنْ يُنظر إلى الدّين بوصفه مكمنَ القوة والعزّةِ للإنسانِ، فكانت محاولات إعادة النظر في طريقة فهم النُصوصَ الإسلامية، ولاسيَّما القُرآن الكريم سبيلاً من سُبِل معاصرتِنا له، ومعاصرتِنا له تَعنِي صيَاغةَ حياتِنا عَلى وفقِ مُتطلبَاتِه.
ويبْدُو واضحاً أنّ المُشكِلات في العَالَم المُعاصِر أَضْحَتْ أكثرَ حُضُوراً فِي حياةِ الإنسانِ، ولهذا فآثارها أكثرُ بروزاً، وقدْ تَأَتَّى ذلك كما رآهُ آية الله العظمى محمد باقر الصّدر من: “أنّ إحساسَ الإنسانِ المُعاصر بالمُشكلة الاجتمَاعِية أشدُّ من إحسَاسِه بها فِي أيِّ وقتٍ مَضى مِن أَدوار التَّاريخ القديم. فهُو الآن أكثرُ وَعياً لموقفهِ مِن المشكلة وأقوى تحسساً بتَعقيداتِها، لأنّ الإنسانَ الحديثَ أصبحَ يَعِي أنَّ المُشْكِلة مِن صنعِه. وأنَّ النِّظامَ الاجتماعِيَّ لا يُفرضُ عليه مِن أعلَى بالشَّكل اَّلذي تُفرَض عليهِ القوانينُ الطَّبيعيّة، الّتي تتحكَّم في علاقات الإنسانِ بالطبيعة. على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحَايين إلى النّظام الاجتماعيّ وكأنّه قانونٌ طبيعيٌّ، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة. فكما لا يستطيع أنْ يطوّر من قانون جاذبيّةِ الأرضِ، كذلك لا يَستطيعُ أنْ يُغيِّر العِلاقاتِ الاجتماعيّةَ القائمةَ.. [فـ] أصبحتْ المشكلةُ الاجتماعيّةُ تَعْكِسُ فِيه_ فِي الإنسَانِ الّذي يَعيشهَا فِكريّاً _مرارةً ثَوريّةً بَدَلاً مِن مرارةِ الاسْتِسَلام(المدرسة القرآنية: 13-14).
من هنا أدَار السيد الصدر رؤيته القرآنية على عناصر المجتمع وعلاقتِها بعضِها ببعضٍ، وتجاوز بِها الصّفةَ الثُّلاثيَّة: [فعناصر المجتمع هي: الإنسان، والأرْض، والعلاقة (أي: الاستخلاف) إلى صفةٍ رُباعيَّة بحضور عنصر رابعٍ تفترضه علاقة الاستخلاف لا يكون إلاّ بمستخلِف (وهو الله سبحانه وتعالى)؛ لهذا سيكونُ الله حاضِراً في تِلكَ العَناصِر عبرَ اسْتحضَارِه بالعنصر الثالث.
وهذا العنصر الرّابع يأتي بوصفه: “مقوِّماً من المُقوِّمَات الأسَاسيَّة للعِلَاقة الاجتمَاعِيَّة علَى الرَّغْم مِن أنَّه خارجُ إطَارِ المجتمع(المدرسة القرآنية:108) ولا يغيب أنّ “هذه الصّيغة تَرتَبِط بوِجْهة نظرٍ معيّنةٍ نحو الحياةِ والكونِ.. بأنَّه لا سيِّدَ ولا مَالِكَ ولا إلَهَ لِلكَونِ ولِلْحيَاةِ إلاّ اللّهُ سبحانَهُ وتَعَالى؛ وإنّ دوْرَ الإنسانِ فِي مُمَارسةِ حَيَاتِه إنَّمَا هُو دورُ الاسْتِخلافِ والاسْتِئمَامِ، وأيُّ علاقة تنشأُ بينَ الإنْسَانِ والطَّبيعَة، فهي فِي جَوهرِها لَيْسَتْ علاقة مالكٍ بمَملوكٍ، وإنَّما هي علاقةُ أمينٍ علَى أمانةٍ اُستؤمن عليها؛ وأي علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان مهما كان المركز الاجتماعي لهذا أو لذاك فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤديا لواجبه بهذه الخلافةالمدرسة القرآنية :108).
وقد عمد السّيد الصّدر إلى إبراز صفة المفارقة بين التّفسير الموضوعيّ والتّفسير التجزيئيّ فقال: “ونسميه الاتّجاه التّوحيديّ أو الموضوعيّ في التّفسير. هذا الاتّجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التّي يمارسها التّفسير التّجزيئي، بل يحاول القيام بالدّراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة فيبيّن، ويبحث، ويدرس. مثلا عقيدة التّوحيد في القرآن، أو يبحث عقيدة النّبوة في القرآن أو عن المذهب الاقتصاديّ في القرآن أو عن سنن التّاريخ في القرآن أو عن السّماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا)المدرسة القرآنية:23(.
ويلحظ أنْ “يبدأ من الموضوع من الواقع الخارجيّ من الشّيء الخارجيّ، ويعود إلى القرآن الكريم” وكان وسم المنهج بالتوحيديّ “باعتبار أنّه يوحّد بين التّجربة البشريّة، وبين القرآن الكريم، لا بمعنى أنْ يحمل التّجربة البشريّة على القرآن … يستخرج المنظور القرآنيّ الذي يمكن أنْ يُحدِّد موقف الإسلام تجاه التّجربة، أو المقولة الفكريّة التي أدخلها في سياق بحثه(المدرسة القرآنية:35). فـ”حصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كلّه تساوي-على أفضل تقدير-مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئيّة أيضاً، أي إنّه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنيّة، لكن في حالة تناثر، وتراكم عدديّ دون أنْ نكتشف أوجه الارتباط، دون أن نكتشف التركيب العضويّ لهذه المجاميع من الأفكار، دون أنْ نحدد في نهاية المطاف نظريّة قرآنيّة لكلّ مجال من مجالات الحياة) المدرسة القرآنية:22).
ولا يهمل السيد الصّدر في مثل هذا الموضع التّنبيه على أمرين مهمّين هما:
الأوّل: إنّ هذه النّظرة لموقع المفسّر وهو يطرح الموضوعات لا تعني أنْ تخضع الآيات قسراً داخل الإطار المفترض للموضوع، لأنّ استنطاق القرآن هنا هو معرفة رأيه، ومعرفة ما يريده منا، لا العكس.
الثّاني: إنّ التّفسير الموضوعيّ لا يقف موقف الإلغاء للتّفسير في المرحلة السّابقة (التّفسير التّجزيئي) فيمكن الفائدة منه على نحو فاعل، فهو الرّصيد المعرفيّ الذي يتمّ إدراجه داخل الإطار الجديد (أي: الموضوع). فيتمّ تنسيق مادته بما يخدم تقديم النّظرة القرآنيّة المتكاملة للموضوع.
إنّ المتأمل في توجهات الصّدر نحو إبراز عناصر المجتمع التي تمّ رصدها قرآنيّاً؛ يراها مندرِجةً ضمن المسار الذي خطّه لنفسه ولفكره، وهو مشروعه المعرفيّ الكبير. فعنوانات كتبه تقوم على إعادة الاعتبار للأنا الإسلاميّة في السّاحة الفكريّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، في وقت تنازع المسلمين المدُّ الشيوعيّ، والتوجهُ الرأسماليّ. في مثل تلك الظّروف برز توجّه الصّدر نحو إعادة الثّقة بالنّفس، والقدرة على إدارة هذا الملف، ومعرفة مكامنِ تلك الأنا للحضور في ساحات المواجهة مع الأفكار الأخرى، ومع فراعنة المنطقة.
ويبدو أنّ فكر الشّهيد الصّدر قائمٌ على إعادة الاعتبار القرآنيّ للإنسان المكلّف بالاستخلاف معبِّراً عن العلاقة الاجتماعيّة من زاوية نظر القرآن الكريم، فهو الإطار العام الذي يُغلِّف حركة هذه العلاقة العموديّة أو الأُفقيّة مع الإنسان الآخر أو مع الله تعالى. إنّ تأطير العلاقة التي يعرضها القرآن الكريم في عناصره القرآنيّة بمفهوم الاستخلاف أدّى إلى الانطلاق بكلّ اتّجاهات العلاقة نحو الغاية الّتي تُحقِّق هذا المفهومَ، لأنَّها تستحضر العنصر الرّابع إلى داخل إطارها الاجتماعيّ، وذلك العنصر هو الله تعالى، الأمر الذي فرض على تلك العلاقة فروضاً أدّت إلى تنوع تلك العلاقة تنوُّعاً فريداً لا يمكن أنْ تجدَه في غير المجتمع القرآنيّ.
بقيَ أنّ هذا التوجّه الذي أكسبه الصّدر الشّهيد حضوراً في الدّراسات القرآنيّة، والتّفسير قد اصْطحب معه تأطيراً دلاليّاً نراه يقارب (نظريّة الحقول الدّلاليّة) المعاصرة. مع استمداد هذا التّوجّه من عنصر ذاتيّ للطّرح يعضّده عنصرٌ تاريخيٌّ يكسب التّفسير الموضوعيّ الوجاهة والأصالة لمنحاه، وهو يزيد من رجاحة اعتماده، بل نرى الدّراسات القرآنيّة عن الوحدة الموضوعيّة للسور القرآنيّة استمدّت صيرورتها من تطوير الآلية المعتمدة في هذا المنحى من التفسير.
 

شارك هذا الموضوع: