الحوار عند الفلاسفة
يمكن القول أن التفكير الفلسفي تفكيرٌ يعتمد على الحوار بالدرجة الأولى، لاعتبار مفاده أن كل فعل فيه فلسفة يهدف إلى ترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية و الإنسانية التي ترسخ ثقافة الحوار حيث يعتبر كل فعل نقوم به كما لو كنا وحيدين في ميدان الفعل. فالفلسفة إذن، تتوجه بالضرورة إلى متلق تضفي اليه صورة إيجابية هي صورة المحاور، فهي لا تساومه و لا تراوغه، و لا تخفي عنه خلفياتها، بل تفترض فيه محاورا مشاركا، وهذه الصفة تأتيه من استعماله للعقل و من انخراطه في علاقة الحوار التي تربط بينه و بين محاوره من خلال اللغة.
إن الفيلسوف ليس شخصا متعصبا لأنه لا يدعي امتلاك الحكمة كما يزعم السفسطائي، بل يعتبر نفسه مجرد محب للحكمة، فهو يبحث عنها بحثا حرا دون أن يعتبر من اختلف معه في الرأي خصما أو عدوا، أما المتعصب فيسعى إلى تحويل كلامه إلى سلطة فعلية رافضا الآخر فكراً و شخصًا، على خلاف الفيلسوف الذي يرفض كل سلطة غير سلطة العقل. لذلك، يتطلب الأمر ترسيخ قواعد التفكير النقدي و شروط الحوار العقلاني ورفض انتصاب طرف معين كممتلك وحيد للحقيقة بشكل يعطيه الحق في التصرف كما يشاء، بحيث تصبح لديه قناعة مفادها أن الأطراف الأخرى لا يجب – بل لا يحق لها – أن تتمتع بنفس الحقوق التي سطرها لنفسه، فله أن يبدع و يشرع و يقول ويملي، و على الآخر الاتباع والتنفيذ، و بذلك فهو يلغي مسالك الحوار الساعي إلى الإقناع عن طريق الحجة والبرهان.
الحوار لغة هو المجاوبة و مبادلة الأسئلة و الأجوبة في الكلام، لذلك كان لا بد من وجوب متكلم ومخاطب، و لابد فيه كذلك من تبادل الكلام و مراجعته، و غاية الحوار توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم، و توضيح المعاني و إغناء المفاهيم. أما في المعنى العام، فهو النقاش الذي يدور بين طرفين أو أكثر.
يتعين التمييز بين الحوار الفعلي أو الحقيقي كما يحصل في الواقع، و الحوار المكتوب أو المدون كشكل من الكتابة جسده العديد من الفلاسفة و المفكرين، و بوجه خاص أفلاطون في عرض لفلسفته على لسان أستاذه سقراط. والحوار عند أفلاطون لا يمثل مجرد نقاش أو حديث عرضي وجانبي يتضمن سجالا و خصاما، بل إنه شرط التفكير، ونشاط الفكر ذاته في علاقته بالتفلسف، و البحث الدؤوب عن الحقيقة. فأن نتفلسف هو أن نفكر و نتحاور، و هذه الأنشطة تمثل شيئا واحدا، بل إن الحوار يمثل فن طرح السؤال و توليد الحقيقة و تذكرها، فهو لا يعبر فقط عن إجراء معرفي يهدف إلى التحرر من الأوهام و البحث عن الحقيقة، بل هو قيمة سلوكية و عملية تراهن على تحقيق التفاهم و الوفاق بين الأطراف بعيدا عن كل ادعاء.
و لعل صورة الفيلسوف المثلى في تاريخ الفلسفة ظلت دائما هي صورة سقراط، فقد جسد رغبة الفيلسوف في الكشف عن الأوهام التي تخفيها الآراء، و في البحث عن المعرفة الحقة بالذات و بالأشياء. و هذا ما شكل مجال معارضته للسفسطائية التي قامت على تعليم الخطابة مقابل أجر، لا من أجل البحث عن الحقيقة أو تعليم الفضيلة بل من أجل إفحام الخصم في المحاكم وفي محافل الخطابة. لذلك، يقابل منهج الحوار لدى سقراط منهج الخطابة و البيان الذي يعتمد التلقين لدى السفسطائيين، و يهدف لديهم إلى إكساب المتعلم القدرة على التأثير في الآخرين و توجيههم.
الحوار و أخلاقياته :
ينبغي أن يتأسس الحوار على الحق في الاختلاف من خلال نبذ كل أشكال و التعصب و التسلط، و ذلك في سبيل تحقيق تكامل حواري بين الذوات يقوم على الاختلاف لا الخلاف، فالأول يقتضي أن يكون المقصود واحدا و الطريق مختلفا، بمعنى أن نقصد نفس الهدف لكن نختلف في طريقة الوصول إليه. أما الثاني-أي الخلاف- فهو أن يكون المقصود و الطريق مختلفين. إن الاختلاف يتأسس على البرهنة و الحجة مادام المقصود واحد، و ذلك من أجل إقناع الآخر، و هو تنازع مبني على الأدلة، أما الخلاف فهو الرأي التحكمي الذي لا يتأسس على أدلة، و هو نوعان : أحدهما خلاف حقيقي مبني على العقل و يعود إلى تباين وجهات النظر، كأن يقوم بين الحق و الباطل. أما الآخر، فخلاف ينبني على التنازع. فالحوار إذن، ينبني على الاختلاف و لا ينبني على الخلاف، لأن الاختلاف في الرأي هو مدار الحوار النقدي، لأن الإنسان بطبيعته لا يمكن أن يفكر بطريقة واحدة، فكما أن الطبيعة أعطتنا وجوها مختلفة، فقد منحتنا عقولا مختلفة. إن الاختلاف يولد الحوار في الوقت الذي يسعى فيه كل طرف لإقناع الآخر معتمدا في ذلك على الحجة والدليل.
الحوار كسبيل لترسيخ قيمة التسامح :
إن قبول مبدأ التسامح وفكرة التعايش يعني تجاوز سبل الانقسام الذي يقوم على أساس الدم أو الرابطة القومية أو الدين أو الطائفة أو العشيرة أو غيرها من الناحيتين النظرية والاخلاقية على أقل تقدير.
و مبدأ التسامح يعني التعايش على نحو مختلف، سواء بممارسة حق التعبير عن الرأي أو حق الاعتقاد أو حق التنظيم أو الحق في المشاركة السياسية، و لا يتم التسامح إلا بالحوار الذي ينبني على الاختلاف في المنطلقات و الاتفاق حول المقاصد.