يُعدُّ الخطاب النبوي محطَّ اهتمام الباحثين لِما يحمله من ثراءٍ تشريعي وأخلاقي، لكن إشكاليةَ موقعه بين العالمية والخصوصية تظلُّ مفتوحةً للنقاش. فمن ناحية، يطرح النبي محمد (صلى الله عليه واله) قيمًا إنسانيةً تتجاوز حدود الزمان والمكان، ومن ناحية أخرى، تُظهر سيرتُه تفاعلًا تاريخيا واجتماعيا محدَّدا. حيث ان استكشاف آليات والجمع بينها في الفكر الإسلامي، وتسليط الضوء على التحديات المعاصرة في تفسير النصوص النبوية.
تشير العالمية في الخطاب النبوي إلى تلك الجوانب التي تستهدف الإنسانَ ككائنٍ أخلاقي، بغضِّ النظر عن انتماءاته الثقافية أو الجغرافية، مثل الدعوة إلى العدل والرحمة. أما الخصوصية، فتعني الأحكام والمواقف المرتبطة بظروفٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ عاشها المجتمع الإسلامي المبكر، كتنظيم العلاقات بين القبائل أو إدارة الصراعات. ويمكن تمييز هذين البُعدين عبر تحليل النصوص النبوية في ضوء مقاصدها التشريعية وارتباطها بالسياق التاريخي.
تتجلى العالمية في خطاب النبي (صلى الله عليه واله) عبر نصوصٍ تحمل دلالاتٍ كونيةً، كقوله: « إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق » (رواه البخاري)، حيث يربط رسالته بإكمال القيم الإنسانية المشتركة. وفي خطبة الوداع، يؤسس لمبدأ المساواة الإنسانية بقوله: « يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب »، مُلغِيًا بذلك التراتبيات العرقية والقبلية. كما تُعدُّ قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » (رواه ابن ماجه) مثالًا على المبادئ التشريعية التي تحكم العلاقات الإنسانية كافةً، بغضِّ النظر عن الزمان أو المكان.
في المقابل، برزت الخصوصية في تشريعاتٍ مرتبطةٍ بواقع المجتمع الإسلامي الأول، كالإذن بتعدد الزوجات في سياق ما بعد الحروب، حيث زاد عدد الأرامل واليتامى، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾ (النساء: ٣). كذلك اختلفت معاملة الأسرى بين غزوة بدر وغيرها من المعارك، وفقًا للحدث السياسي والاجتماعي. كما تفاوض النبي (صلى الله عليه واله) مع قبيلة خيبر اليهودية على تقسيم الأراضي الزراعية وفق عاداتهم السابقة، وهو ما يعكس مراعاةً للخصوصيات الاقتصادية للمجتمعات المحلية.
لجأ الفقهاء إلى آلياتٍ منهجيةٍ لموازنة العالمية والخصوصية، كالتفريق بين( الثوابت والمتغيرات). فحدد الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات” أن المقاصد الكلية (كحفظ الدين والنفس) تُعدُّ ثوابتً عالميةً، بينما الوسائل قابلةً للتغيير وفقًا للزمان. كما مثَّل (التدرج التشريعي) آليةً لمراعاة الخصوصية، كتحريم الخمر تدريجيًّا، بدءًا من ذمِّها في الآية 219 من سورة البقرة، وصولًا إلى التحريم القاطع في سورة المائدة (الآية 90)، وهو تدرجٌ يراعي عادات المجتمع الجاهلي. بالإضافة إلى ذلك، أسهمت قاعدة « العادة محكمة » (ابن عابدين، حاشية رد المحتار) في تكييف الأحكام مع الأعراف المحلية، شريطة عدم تعارضها مع الثوابت الشرعية.
تواجه القراءات الحديثة للخطاب النبوي تحدياتٍ في تطبيق هذه الثنائية، كإشكالية تطبيق الحدود (كقطع اليد في السرقة) في مجتمعاتٍ تختلف ضماناتها الاجتماعية عن السياق التاريخي الإسلامي. كما يطرح عصرُ العولمة أسئلةً حول مدى قدرة الخطاب النبوي على معالجة قضايا معاصرةٍ كالتغير المناخي أو التمييز العنصري، والتي لم تكن مُدرَكةً في القرن السابع. هنا تبرز أهمية الاجتهاد المقاصدي، الذي يحاول استنباط حلولٍ من القيم الكلية للنصوص، كالعدل والرحمة، دون التقيُّد بحرفية النصوص التاريخية. يكشف التحليل أن الخطاب النبوي نجح في الجمع بين العالمية والخصوصية عبر تأصيل قيمٍ أخلاقيةٍ مطلقةٍ، مع مراعاة السياقات الاجتماعية في التشريع الجزئي. كما وفَّر أطرًا مرنةً (كالمقاصد والاجتهاد) تسمح بمواكبة تحولات العصر. ومع ذلك، تظلُّ إعادة قراءة النصوص في ضوء التحديات المعاصرة مهمةً ملحَّةً، لضمان استمرارية تأثير الخطاب النبوي كمرجعيةٍ أخلاقيةٍ وتشريعيةٍ للإنسانية.
المراجع
– القرآن الكريم.
– صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري.
– الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي.
– إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية.
– حاشية رد المحتار، ابن عابدين.
– الخطاب الديني بين التجديد والتجميد، طه جابر العلواني.
– السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي.
– الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق.
– The Message of the Qur’an, Muhammad Asad.
– Major Themes of the Qur’an, Fazlur Rahman.
– Radical Reform: Islamic Ethics and Liberation, Tariq Ramadan.