الذات الشاعرة عند الأبيوردي
يتفاوت حضور الذات الشاعرة على مساحة النص الشعري تبعاً لمرجعيات اجتماعية وفكرية وتاريخية ، إذ لا يمكن لأي ابداع شعري أن ينشأ من فراغ . وهنا نحاول رصد حركية النص الشعري من خلال البنية التقابلية للحضور والغياب في شعر الأبيوردي ، وقد لاحظنا تجلي قوة الحضور للذات الشاعرة في غرض الفخر ، إذ يفخر الشاعر بمناقبه وحسبه ، وآبائه ، وكرمه وشجاعته ، وعزة نفسه ، وشعره وكبريائه . فالفخر كل ما دار حول العقل والقلب واللسان ، وما دار حول القبيلة ، والآباء والأجداد ، فهو يفخر بأمويته ، ويذكر نسب أعمامه الذي يمتد به الى عدنان القبيلة الأم لقريش وأخواله من سروات سبأ . ويجسّد ذلك في أبياته :
أنا المُعاويُّ أعمامي خلائفُ مِنْ
أبناء عدنانَ والأخوالُ من سبإ
فما لجدّي ولا لي في العُلا شبهٌ
وأينَ شبهُ أبي سُفيان في ملإِ
سادَ الأنام فلمْ يُعدلْ به أحدٌ
وكُل صيدٍ كما قد قيلَ في الفراء
لكننّي في زمانٍ أهلهُ همجُ
وكُلهمُ حين تُطريه أبو لجإ
يا دهرُ حتّامَ تجفو مَنْ تُزانُ به
أما لديك بما يلقاهُ من نبإ
هذا الفخر المتعالي هو حضور جليّ للذات الشاعرة تمثلها اللفظة الاولى (أنا) ، كما يشتد الحضور بروزاً بقوله ( ولالي في العُلا شبهٌ) في مواجهة لتغييب زماني أرغمه عليه أناس (همج) كما يُعبر في زمان انصفهم وظلمه حين قال :
لكنّني في زمانٍ أهلُه هَمَجٌ
وكُلهمْ حينَ تُطريه أبو لجإ
هذه الجدلية بين الفخر والتأسف على خذلان الزمان هي نفسها جدلية الحضور والغياب في قناعة الذات الشاعرة .
إن الشاعر المغترب روحياً ومكانياً يحاول جاهداً أن يحارب تغييب المجتمع له بسلاح الحضور الطاغي المتمثل في الفخر ، وهو يجسّد ذلك لا شعورياً وشعرياً ، إذ قال :
وإنّي إذا انكرتني البلادُ
وشيبَ رضى أهلها بالغضبْ
لكالضَّيغم الوردِ كاد الهوانُ
يدبُّ إلى غابِه فاغتربْ
فشيّدتُ مجداً رسا أصلهُ
أمتُّ إليه بأمٍّ وأبْ
الى أن قال :
وقد عَلمَ اللهُ والنَّاسبو
نَ أنّ لنا صفو هذا النّسبْ
وإنّي وإن نالَ منّي الزّمانُ
ونحنُ كذلك سُؤرُ التُّوبْ
لأرفعُ عن شممٍ واضحٍ
لثامي وأرقعُ وهيَ الحَسَبْ
إنَّ تغييب الشاعر من قبل مجتمعه هو غياب إشراقي في نفسه ؛ فمخاض الغياب بشير بولادة حضور طاغٍ يحاول الشاعر جاهداً أن يجسده في الفخر بذاته ونسبه وصفاته. فظلمة الغياب المتمثل بقوله وإنَّي اذا انكرتني البلاد ..هو إيذان بإنبلاج اشراق الحضو لكالضَّيغمِ الوردِ … ، فالشاعر يهتف بحضوره حين يُشيد مجده فشيّدتُ مجداً رسا أصلهُ .. فهو يمقت ذلك التغييب القسري وإنَّي وأن نالَ منّي الزّمانُ .. غياب لا إرادي خلقته تقادير الزمان ، ينفيه بحضور إرادي ، صنعته الذات الشاعرة يتمثل بقوله :
لأرفعُ عن شممٍ واضحٍ
لثامي وأرقعُ وهيَ الحَسبْ
هذه التقابلية بين الغياب والحضور في النص تمثل مخاضاً للغياب يولد منه حضور الذات الشاعرة .