لا ريب ان الحضور الذي يقصد بحسب ما تحكمنا من ماديات ليس الحضور المادي الذي تدركه الحواس ، وان لم يكن ذلك صعبا أو بعيدا على إرادة السماء التي بيدها كل شيء وهم أقرب الخلق وأكرهم وأحبهم إليه ، وقد خلقهم أنوارا بساق العرش ،لذا وصف حضورهم بالإشرافي والنوراني لتقريب الامر الى أذهاننا المحدودة.
فاذا صدقنا معتقدين بحضور النبي وابنته وجميع الائمة عليهم أفضل السلام وأتَّم التسليم مجالس الحسين عليه السلام ،فإننا نصدِّق كثيرا ونؤمن بحضورهم في واقعة الطف قبل انعقاد تلك المجالس المباركة.
((ويروى خبر في كامل الزيارات عن الإمام الصادق ” عليه السلام ” قال : ( وما من باك يبكيه إلا وقد وصل فاطمة ” عليها السلام ” وأسعدها عليه ) فانّ إسعاد المُسعِد لا يتم إلا مع علم المُسعَد واطّلاعه )).
ولو تصفحنا هذه الثيمة عند الشعراء الشيعة فإننا نجد عند الشاعر دعبل الخزاعي في تائيته الشهيرة في رثاء أهل البيت (عليهم السلام) والتفجع لمقاتلهم، وما جرى عليهم، التي أنشدها في حضرة الامام الرضا عليه السلام ، نجده يستحضر ذكر فاطمة الزهراء(عليها السلام) ويوجه خطابه إليها بقوله:
أفاطمُ لو خلتِ الحسين مجدَّلا * وقد ماتَ عطشاناً بشطِّ فراتِ
والواضح أن الشاعر اصطنع مشاركة وجدانية خيالية للسيدة الزهراء(عليها السلام) عبر مناداتها ثلاث مرات وكأنها حاضرة في الطف تنظر ابنها الحسين(عليه السلام) ومصرعه، ووصف ما يمكن أن تقوم به من لطم على الخدود وسكب للدموع؛ انه منظر مؤلم يزيد المشاعر حدَّة ووجعاً ويستدر الدمع وبكاء والنحيب على حال السيدة الجليل ،وعلى ما جرى على ابنها الشهيد المظلوم؛ ويعمد الشاعر إلى توسيع ندب الزهراء فاطمة على تلك النجوم الخيرة التي سقطت في ارض كربلاء وفلواتها من أولاد الحسين (عليه السلام) وإخوته وصحبه الغر الميامين الذين قدموا أنفسهم قرابيناً دون الحسين(عليه السلام) .
ونجد الشريف الرضي في قصيدته الشهيرة(كربلا لازلت كربا وبلا) يوجه خطابه الى رسول الله صلى الله عليه واله ويستحضر وجوده الشريف في كربلاء حين قال:
لَيسَ هَذا لِرَسولِ اللَهِ يا – أمَّةَ الطُغيانِ وَالبَغيِ جَزا
ولا شكَّ أنَّ هذه المحاولة تزيد من الأسى وتبعث على النحيب والبكاء لما حلَّ بالحسين عليه السلام وأهل بيته ، وتعطي بعداً جديداً للفاجعة، متمثلاً باطلاع الرسول وعلمه (صلى الله عليه واله) على ما جرى في أرض الطف ، على الرغم من غيابه المادي فيما تعتقده حواسنا.
ونجدُ شاعراً أندلسياً وهو صفوان ابن إدريس التجيبي (ت 598هـ) قد ناله حبُّ الحسين(عليه السلام)، فنظم عدة قصائد طفية في رثائه، منها قصيدته التي يذكر فيها مصرعه وأهل البيت(عليهم السلام)، وقد نعتهم بـ( الفاطميين) في قوله:
على مصرع الفاطميين غُيَّبتْ * لأوجههم فيه بدور وأنجمُ
ونجده أيضا يصطنع مشاركة وجدانية وهذه المرة بين الزهراء (عليها السلام) وأبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حين تصور اقبال الزهراء عليها السلام على أبيها لتخبره بما صُنع بولديها الحسن والحسين عليهما السلام ريحانته التي لطالما شمهما وقبلهما وضمهما الى صدره فنراه يقول:
وأسرَ بنيه بعدَهُ واحتمالَهم * كأنَّهم من نسلِ كسرى تغْنَموا
ونقرَ يزيدٍ في الثنايا التي غدَت× ثناياكَ فيها أيُّها النورُ تلثِمُ
فالشاعر فصَّل القول أكثر وأعطى لمصيبة الحسن عليه السلام ولمصيبة الحسين عليه السلام وما جرى على أهل بيته من سبي وأسر إبعاداً جديدة مضافة مؤثرة في نفس المتلقي وقد استدرت دمعه ونحيبه. وجاء تعامل الشاعر في استحضار شخصية الزهراء عليها السلام في واقعت الطف وكأنها قد شهدت تفاصيلها بعينها ولم تسمع روايتها من أحد ،وهذا ما ينبئ عن ايمان بحضورها في واقعة الطف عند هذا الشاعر .