السخرية في الشعر العباسي 
أ.د.فهد نعيمة البيضاني
لقد حمل الانفتاح الثقافي على الأمم الأخرى في مطلع العصر العباسي معالم إيجابيَّة وسلبية على الأدب العربي ، بل انَّ الإيجابيَّة أكثر ، ولو تصفحنا دواوين الشعراء في العصر العباسي الأول لوجدنا أنَّ الإرهاصات الفكرية والإبداعيَّة جلية وواضحة وملفتة للنظر ، فقد عبَّر هؤلاء عن واقع الأمة ، وما فيها من فكر وثقافة وألم وجوع في الوقت ذاته ، اصطبغت قصائدهم بالإبداع الفني المميز والجديد على ألأدب العربي . 
ولعلَّ فن التصوير الساخر واحد من تلك الظواهر الجديدة والمميزة في الشعر العباسي ، وعلى الرغم من قدم الصورة في الشعر إلاّ أنَّها تعد من مظاهر التجديد والتميز في الشعر العباسي ، ذلك العصر الذي شهد تطوراً في المأكل والملبس والعمران ، فقد واكب الشعراء في تلك المرحلة هذا التطور ، وتأثَّروا به ، ولاح ذلك في أشعارهم ، ولاسيما من كانوا على مقربة من مظاهر الترف عند الخلفاء والوزراء والقادة . 
ويؤدي الخيال دوراً أساسياً في صناعة الصورة ، فالشاعر حين يلتقط المادة الأساسية من الواقع يخضعها إلى عالمه الخاص ، ومكنوناته النفسية ، فيربطها ربطاً يكاد في أغلب حالاته غير منطقي ، يعبر فيه عن رؤيته الخاصة لهذا العالم بكل تجلياته السياسية والاقتصادية وحتى الذاتية ، وتصدر من نبع الألم والمعاناة ، وفي الوقت ذاته قد تنبع من بؤرة الفرح والسرور عند شاعر آخر ، لهذا فقد عبَّر الشاعر الساخر عن الإرهاصات الفكرية والسياسية والاجتماعية في عصره بصدق ، وكان شجاعاً في ذلك ، فقد خالف ما قام به شعراء المديح من تمجيد وإضفاء صفات مبالغ فيها على الخلفاء والأمراء ، بل فتحوا عيوننا على عيوب اجتماعية ودعوا بطريق غير مباشر إلى إصلاحها ، وكانوا قريبين إلى نفوس الطبقات الشعبية من شعراء الغزل والمديح والوصف والرثاء . 
إنَّ الضحك المنبعث من الفكاهة ضحك سار ومبهج ، لكن السخرية مؤلمة موجعة كئيبة ، ولو انبعث منها أو معها الضحك ، فإنما هو ضحك حار كالبكاء ، فضلاً عن كونها شعوراً عميقاً ملتصقاً بطباع الإنسان ، ينبعث من أعماق نفسه ، ومن ثمَّ فهي موقف فكري فردي تجاه الأشياء والموجودات ؛ إذ تكون في نفس متهكمة ناقدة تجاوزت مرحلة الموجدة والغضب ، ودخلت في مرحلة التأمل والتفكير وإعمال العقل . 
لذا فقد شكَّل الشعر الساخر – في حد ذاته – رفضاً للواقع من دون أن يخلق حالة مواجهة أو صدام ، فمن خصائص الشعر العباسي المحدث أنَّه قد اتسع ليخوض في شؤون الحياة الاعتيادية اليومية ، أو مشكلات الطبقات الدنيا ، فالقصيدة تتجه إلى تحرية الواقع وإبرازه في صورته الحقيقية ، فمال الشعر الساخر إلى البناء الأخلاقي أكثر من الهدم ، والشعراء الساخرون عدلوا عن التهاجي بالأحساب والأنساب والعصبيات القبلية ، وتغلغلوا في مطاعن خلقية ونفسية ، فالشاعر يعتقد أنَّه صاحب رسالة تقوم على قيم عليا من الأخلاق والسلوك لا سبيل إلى رقي المجتمع من دونها ، وهو مدفوع إلى إبلاغ هذه الرسالة ، فلكل مجتمع عيوبه وأمراضه ، والشاعر أولى بأن يلتزم هذه القضايا ويعبر عنها في شعره ،  وعلاوة على ذلك فإنه لم يكن باستطاعة الشعراء أن يقاوموا العيوب الاجتماعية مقاومة عادية مباشرة ؛ لأنها ليست عدواناً بين جوانحهم ، فلم يجدوا مندوحة إلا أن يسروا عن أنفسهم وغيرهم بالتهكم والضحك ، وشر البليَّة ما يضحك .

شارك هذا الموضوع: