السياب في ذكراه السادسة والخمسين
تحقيق جديد للأعمال الشعرية الكاملة يفتح بابا مغلقة على تزييف التاريخ الأدبي في العراق
حمزة عليوي
كان إبراهيم الوائلي أول من فتح بابا أغلق بالرتاج على ما أسماه بعنوان تراثي هو “اضطراب الكلم” في شعر أحد كبار الشعراء العراقيين، وهو الزهاوي. فكانت الحصيلة كتابه الرائد ولا شك، اضطراب الكلم لدى الزهاوي “مطبعة الإيمان، بغداد: 1970”. والكتاب ثمرة التدقيق ومقابلة النصوص بعضها ببعض بين ديواني الزهاوي الأول “الكلم المنظوم” وديوانه الثاني “لم يذكر اسمه، وقد يقصد الديوان المعروف بديوان الزهاوي – المطبعة العصرية بمصر لصاحبها خير الدين الزركلي، وذكر فقط سنة طبعه عام  1924بالقاهرة”، فوجد أن هناك ظاهرة وصفها بـ”ليست بغريبة في موضوعها بقدر ما هي غريبة في سعتها وتنوعها”، وهي عنده “تبديل الكثير من المفردات والعبارات وبعض الأشطر بتمامها”. ولقد أغرت هذه الظاهرة الباحث الرصين الأستاذ الوائلي فمضى بفحص شعر الزهاوي المعروف والمتداول آنذاك كله، فوجد أن اضطراب الكلم يكاد يقتصر على الديوانيين المذكورين وديوانه الثالث “اللباب”. لم يزد الوائلي عما وصفه باضطراب الكلم، وكان هدفه الرئيس هو استعادة أصل النص الشعري قبل أن يلحقه الاضطراب. ثمَّ إنه لم يجد له مثيلا في الشعر العربي، لاسيّما العراقي منه، بالرغم من أنه قد وصف الظاهرة بعدم الغرابة؛ ربما لأنها على صلة غير خافية بظاهرة معروفة في تاريخنا الأدبي أسمّاها البصير جدا طه حسين “في الشعر الجاهلي – 1926″، جريا على رأي أستاذه مارجليوث “أصول الشعر العربي – ١٩٢٥: “الانتحال”. فهل انتهى الأمر عند حدود الظاهرة المفردة؟ 
في ذكرى رحيله السادسة والخمسين تُصدر دار الرافدين التحقيق الموسع للأعمال الكاملة لرائد الشعر الحر في العالم العربي بدر شاكر السياب بمجلدين انيقين. والتحقيق الجديد بصنعة شاعر شاب سبق له أن أصدر أربع مجاميع شعرية هو علي محمود خضير، وبتقديم خاص كتبه أدونيس تحدث فيه عن السياب بوصفه شاعرا مؤسسا للشكل الجديد في الشعر العربي. وتحدث كذلك عن الإشكاليات الكبرى التي تعرض لها السياب في قصائده الرئيسة فيما يخص موقع الشعر في المجتمعات الإسلامية العربية. فما الجديد الذي استدعى إصدار هذا التحقيق للأعمال الشعرية الكاملة للسياب؟ 
في مقدمة تحقيقه يكتب “خضير” أن شعر السياب لم يكن موضع عناية خاصة تتولى وتأخذ على عاتقها توثيق شعر السياب على أساس مهني محايد ينقِّيها مما وصفه بـ”الأخطاء الإجرائية والتأثيرات (بأنواعها)..”. وهو يتهم الطبعات السابقة لشعر السياب، بما فيها الطبعة المعروفة والمتداولة لأعمال السياب الكاملة بمجلديها “دار العودة، بيروت – 1971” بأنها “تعاني من ثغرات مؤثرة وعلَّات متوارثة لا تتناسب مع قيمة الشاعر”، وهي عنده تتصل بـ”نقص، سهو، عدم دقة، وأخطاء”. والاتهام يطال حتى ما أصدره السياب في حياته، وما صدر بعد رحيله الفاجع، من دواوين شعرية. ثمة، إذن، اضطراب جديد لابد من معالجته للوصول إلى ما افترضه المحقق “النسخة الأصلية” لشعر السياب التي أرادها الشاعر وليس ما فرضته “الظروف التاريخية الدقيقة”. وهو اضطراب معاصر نسبيا، ومختلف إلى حد ما عما درسه الأستاذ الوائلي في الدواوين الثلاثة للزهاوي. فما هو جوهر الاضطراب الذي استدعى تحقيقا جديدا للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب؟ 
يجزم المحقِّق أن القارئ العربي لم يطلع ويقرأ النص الحقيقي الكامل لقصيدة السياب؛ فهناك تباينا “اختلافا – اضطرابا” بين القصائد في طبعة الأعمال الكاملة ونشرها في الصحف والمجلات أو في الدواوين المفردة. فنحن، كما يشدِّد المحقِّق، أمام روايات مختلفة للقصيدة الواحدة. لنأخذ قصيدة الأسلحة والأطفال، مثلا، فسنجد لها ثلاث روايات – صياغات: رواية مطبعة “الرابطة – بغداد: 1954″، رواية ديوان “أنشودة المطر – منشورات مجلة شعر: 1960″، رواية طبعة “دار العودة – بيروت: 1971. وهذا الاضطراب ذو أشكال مختلفة: تعديلات أجراها الشاعر بنفسه، وحذف “مقاطع اعتمدها الشاعر”، وإضافة أخرى سبق أن حذفها بـ”نفسه” أيضا. وسبب هذا التباين “الاختلاف”، كما يرى المحقِّق، عائد إلى الموقف السياسي للناشر “دار نشر أو صحيفة أو مجلة” أو الدولة وقتذاك،  وهناك ما جرى حذفه “بتخويل من الشاعر وتنسيق معه”، وفي كل الأحوال فقد وثَّق المحقِّق هذه الحالات بهوامش خاصة في موضعها. نذكِّر، هنا، بما كُتب على غلاف أحد دواوين الزهاوي نفسه، قبل السياب بعقود، مما يؤكد أثر السياسة في اضطراب شعر الزهاوي: “أسقط ناظمه بعض أبيات قصائده، ونشر أكثرها في أبانها بإمضاء مستعار في أشهر جرائد مصر يوم كان الاستبداد شديدا”. وسنرى أن اضطراب الشعر جزء أصيل من اضطراب بلاد كاملة. 
التباين، إذن، حاصل ولاشك، ولكي يعثر المحقِّق على “النسخة الأصلية” فقد كان عليه أن يتوسل، في انجازه مهمته الشاقة، بما توفَّر من “مخطوطات الشاعر”، والطبعات السابقة للأعمال الكاملة، وهناك الدراسات التي كتبت عن حياة السياب وشعره. فوضع ما يمكن تسميته بخارطة طريق في عمله. وهذه الخارطة تمثِّلها ست خطوات التزم بها المحقق. وهي التحري الدقيق في القصائد. والتحقيق حسب المتاح من “مخطوط أصلي أو وثيقة منشورة”. والضبط الشكلي للكلمات والأبيات الشعرية وتصحيح ما يرد من أخطاء فيها. وكتابة هوامش تتولى مهمة شرح ما طرأ على القصيدة “تعديل أو حذف”. وإيراد بعض التفاصيل “الخاصة” المتعلِّقة بالقصيدة. ثم شرح الغامض من “المفردات والأعلام” الواردة في القصيدة. 
من حسن حظ المحقِّق، وربما الأجدر أن نكتب من حسن حظ السياب نفسه، إن المحقق هو شاعر عارف بالشعر العربي، على الرغم من حداثة سنه وتجربته الشعرية، ولقد مكّنته هذه المعرفة أن يكتشف هنّات الطبعات السابقة ويشخِّص مواضع اختلافها وتباينها عن بعض. من هذا القبيل ما يتحدث عنه المحقِّق مما يتصل بعدم “التزام الطبعات (الكاملة) السابقة بالصياغات النهائية لدواوين الشاعر”؛ فهي تتجاهل التغييرات التي تطرأ على القصائد، فلا تهتم بها، وكان الأجدر بها أن تفرد لها هوامش خاصة توضح الأمر لدى القارئ. ومما له صلة بما وفَّرته معرفة المحقِّق الشعرية لنص السياب تصحيح أخطاء مضى عليها خمسون عاما، وكان الأجدر بجامعي شعره، فضلا عن دارسيه الكثرة، أن ينبهوا عليها. وهو يسوق، مثلا، ما ورد في قصيدة “ليلة في العراق – مجموعة شناشيل ابنة الجلبي” من خلل الوزن واضطراب المعنى، لاسيما في قوله “تمصُّ الماء، يقرع في مداها النُّسغُ”، والذي سيجده بصياغة جديدة تتضمن إضافة تُصلح اضطراب الوزن الشعري والمعنى في مخطوطة القصيدة، وفي عدد مجلة “حوار”: “تمصُّ الماء، يقرع في مداها النُّسغُ آلاف الدرابك حين ترتعش”. 
غير أن ما يسمّيه المحقق بـ”تبدلات المتن الشعري” يظل ملاحظة أساسية؛ فهو يعتقد أن هذه “التبدلات” حصلت لعوامل متعدِّدة، يتعلق بعضها باختلاف وتحولات الشاعر وقناعاته الفنية. وبعضها على صلة بتحقيق طلب دور النشر، في حياة الشاعر وبموافقته، أو بعد رحيله. وفي هذا السياق نجد المحقِّق متعاطفا مع السياب ونصه الشعري، فنراه يندد بالتعسف الذي لحق شعر السياب حتى جاوز “الحدود الأدبية والأخلاقية في بعض الموارد إلى محاولات تنقسم – مثالا لا حصرا: إما للنيل منه والغض من مكانته، أو توجيه شعره بسياق ما”. 
هل نحن بإزاء ما أسماه الأستاذ الوائلي بـ”اضطراب الكلم”، على صعيد مختلف وبعيد زمنيا عن شعر الزهاوي، أم نحن أمام مجرد تباين واختلاف بين نصوص قصيدة السياب؟ وهل أن هذا الاضطراب يشمل الشعر العربي بطبعاته الوطنية كلها أم أنه يقتصر على الأدب العراقي، شعرا وقصة قصيرة ورواية، وربما حتى مسرحا؟ لقد سمعنا وقرأنا عن قصائد أسقطها محمود  درويش وأدونيس، وربما حتى سعدي يوسف، لكننا لم نسمع أمرا مماثلا ومشابها لما حدث ويحدث في الشعر العراقي والأدب عامة، فلا نعرف أن ديوان شاعر النيل، حافظ إبراهيم، قد اضطربت قصائده واختلفت في النشر. وهو ذاته ما لم يحصل مع محمود سامي البارودي وأمير الشعراء، أحمد شوقي، بل لم يحصل مع معاصر السياب صلاح عبد الصبور وغيره ممن لحقه. مرة أخرى هل ما حصل ويحصل، وما سيحصل ولاشك، يخص الشعر العراقي وحده؟ وعن ماذا يعبر اضطراب الشعر العراقي وتباينه؟ وهل حقا نحن في سياق ظاهرة أدبية صرفة ينحصر الاشتغال والتفكير بها في سياق الأدب فقط؛ ألا يعبر اضطراب الشعر عن اضطراب البلد والشخصية العراقية؟ إن ما فُهم على أساس من أنه اضطراب الكلم قد تحول بتعمد وتعنُّد إلى رغبة جامحة تتعلق وتختص بظاهرة جديدة ومختلفة كليا في سياق الشعر والأدب العراقي، إنها ظاهرة تزييف التاريخ الأدبي القائم على أساس تزييف النص وتدمير ثباته المتحقق عبر التداول. لنأخذ، مثلا، الشعر الحربي الذي كُتب من منطق تمجيد الحرب في عراق الثمانينيات وصولا إلى لحظة سقوط الديكتاتور، ويتصل به قصائد المدح لصدام حسين. ماذا حدث لهذا الشعر، ذلك الكم الكبير الذي كانت عيناي تذهب إلى ركنه في مكتبة كلية الآداب؟ ليس عندي سوى جواب واحد ووحيد: لقد جرى رفع هذا الشعر من المجاميع الكاملة المطبوعة لاحقا، أو جرى تغيير النص بما ينسجم مع مشهد السقوط المدوي. نحن في حفلة تزييف كبرى يشترك فيها شعراء وكتاب قصة ورواية ومسرح. ومن المؤسف حقا إن الحياة والظروف المتلبسة قد ورَّطت السياب بهذا الاضطراب “التزييف”. وبعض مأثرة التحقيق الجديد إنه يدعم فرضية كتاب أعمل عليه منذ سنوات، يناقش مشكلة أو مشاكل تزييف النص الأدبي، ومن ثمَّ تزييف التاريخ الأدبي في العراق. 
أيا كان الأمر، فإن التحقيق الجديد للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب يعيد الجدل فيما يخص شعر السياب. وهو تحقيق مهني محايد، حاول محقِّقه أن ينأى بنفسه وعمله عما يثير اللبس، ويفتح شهية الاختلاف على ما أنجزه. وهي مأثرة تستحق الإشادة، مثلما تستحق صنعة علي محمود خضير نقاشا علميا أكثر تخصصا وفائدة. أقصى ما تحدث عنه المحقِّق، في سياق مهنيته، أن كتب عن “تباين” القصيدة واختلاف طبعاتها، وركَّز على تفاصيل عمله المهني المحايد، فكان هذا التحقيق ثمرة الحياد والعمل المهني. وهو، بالنسبة لي، دليل آخر على صحة فرضيتي عن تزييف التاريخ الأدبي والتلاعب بثبات النص الأدبي وتداوله التاريخي في العراق.  

شارك هذا الموضوع: