السياق الموجد والكاشف للمعنى النحوي
-م. د. قصي ثعبان يوسف الأسدي .
– التخصص : اللغة العربية / لغة .
يرتبط المعنى بالسياق سواء أكان سياقا لفظيا أم كان سياقا مقاميا (الحال) ارتباطاً وثيقاً  بالنحو العربي ، فالقدماء قد أولوه أهمية كبيرة ؛ لما له من أهمية في بيان المعنى وظهوره ، فسيبويه في كتابه تكاد لا تخلو مسألة من مسائله من سياق لفظي أو مقامي ؛  لدوره الكبير في توضيح وبيان المعاني النحوية ، وتبعه النحويون في تسليط الضوء على السياق كعنصر مهم في الكشف عن المعنى . أما المحدثون فلم يكونوا بأقل من القدماء في الاهتمام بالسياقات النحوية . إذ نجدهم قد فصلوا في ذلك ، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على أهمية السياق اللفظي وسياق الحال في تجلي المعنى في التراكيب النحوية 
فسياق الحال أو المقام يعني كل ما يحيط بالنص خارجياً ، من متكلم ومخاطب ، وما بينهما من علاقات ثقافية ، واجتماعية ، ونفسية ، وغيرها من العلاقات ، وكذا العصر الذي قيل فيه النص ، والمناسبة ، ونحو ذلك .
احتلت ظاهرة أو نظرية الحذف في النحو العربي قديماً وحديثاً مكانة واسعة في النحو العربي، فقد ذكر سيبويه الحذف في أكثر من موضع في كتابه ، بل تكاد لا تخلو مسألة منه في الكتاب ، فقد ذكر ما يحذف من الجملة ، مع إمكانية إظهاره ، بقوله : (( هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي وذلك قولك ،  إذا رأيت رجلاً متوجهاً وجهة الحاج  قاصدًا في هيئة الحاج ، فقلت : مكةَ وربِّ الكعبةِ ….. كأنك قلت : يريد مكةَ واللهِ. … أو رأيت رجلاً يسددُ سهماً ِقبَل القرطاسِ فقلت : القرطاسَ واللهِ ، أي : يصيبُ القرطاسَ، وإذا سمعتَ وقع السهم في القرطاس قلت : القرطاسَ واللهِ، أي أصاب القرطاسَ)) 
 
و أرى أن الاختصار لازم الحذف ، لا غرض رئيسي له ، بل إن المعنى هو المقصود من الحذف ، وأن السياق القائم مقام اللفظ، هو الكاشف عنه ، وأن ذكر المحذوف عند النحويين كسيبويه هو لبيان الأصل الخطي للتركيب، وتفسيرًا للظاهر كما في قوله : ( القرطاسَ واللهِ ) ، فالعامل (أصابَ) يبيّن ويفسّر الفتحة للمفعول به ( القرطاسَ ) وموقعيته ، وهذا مستحضر لدى المتكلم والمخاطب ، وعدم النطق به لتسليط الاهتمام على المفعول به هو ما يهمهما ويعنيهما ، فتسليط النظر ظاهرا وارتباط القسم به يدل على ذلك .
ويتضح مما تقدم ذكره آنفاً أن السياق ( سياق الحال ) له دور كبير في بيان المعنى ، مما دفع النحويين إلى التفكير في حدوده ، وأنماطه ، سواء أكان عند القدماء أم عند المحدثين ، ولكنه من الاتساع ما لا يمكن حده ؛ لأنه يرتبط بأحوال المتكلم والمخاطب والظروف الاجتماعية والنفسية ، وغير ذلك ، وهي متغيرة بحسب المقام والحال للنص ، ويتبين أن النحويين قد نظروا في بعض السياقات بمعية المتكلم تارة ، والمخاطب تارة أخرى ، وأرى أنه من الممكن أن ينظر إلى السياق بمعية المعنى ، فيمكن من خلال هذه الجهة أن نجعله ، أي : السياق في قرينتين : الأولى: قرينة مُوْجِدة للمعنى ، أي : أنها توجد المعنى بعد إن لم يكن موجوداً ، نحو قوله تعالى : ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى  ، فالتركيب بمعناه الظاهر (ما) استفهام ، وبالقرينة الخارجية تقرير ، فالسياق قد أوجد معنى التقرير وهجر المعنى التركيبي ( الاستفهام ) ، والقرينة الثانية : وهي القرينة الكاشفة ، وهذه القرينة تكون في جزء التركيب ، كما في الحذف ، فقولنا : ( سِيرَ عليهِ ليلٌ ) ، وكذا في قول سيبويه : ( القرطاس والله ) ،  مع إرادة معنى (ليلٌ طويلٌ) ، يُمدُ ( ليلٌ ) بالتنغيم ، فيدل على الصفة المحذوفة ، فالسياق الخارجي (التنغيم) قد كشف عن جزء المعنى المحذوف وهو الصفة ( طويلٌ ) ، فالسياق بالنظر إلى جهة المعنى يكون كاشفاً للمعنى مرّة وموجدا له مرة أخرى  ، فالسياق الموجد للمعنى يعمل كالناسخ والمنسوخ .




شارك هذا الموضوع: