مقالة بعنوان : ( السَّمَاع – النّشأة والمسوِّغات – ) بقلم : م.م. هبه علي مسلم , كلية التربية للعلوم الإنسانية / قسم اللغة العربية .
تزامنت  نشأة السَّمَاع مع بدء تدوين اللُّغة إذ ظهرت الحاجة ملحَّةً إلى تدوينها بعد الفتوح ؛ لتكون معينًا لهم على استنباط الأحكام الشرعية التي اقتضتها الحياة الجديدة من بدء ظهور الإسلام وبذلك بدأ الرواة واللُّغَويون في جمع مواد اللُّغة وما ينتظمها من أشعار وأقوال ونوادِر منذ القرن الأَوّل للهجرة، فجَنَح البصريون إلى مُقارعة ظاهرة اللَّحن وكان ذلك بواسطة نقط المصحف، ولمّا كان الإمام عليّ (عليه السلام) هو الذي بدأ بتصنيف الكَلِم وتقسيمه على ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف، وجب علينا أنْ نَتَيَقَّن أنّ تلميذه أبا الأسود هو الذي صنف الحركات إلى فتحة وكسرة وضمة حين قال لكاتبه: «إذا رَأَيْتَنِي أفتَحُ فَمِي… وإذا رَأَيْتَنِي أكْسِرُ فَمِي… وإذا رأَيْتَنِي أَضُمُّ فَمِي… »، ولعلّ ابتداء أبي الأسود عمله بهذه التوجيهات كان له أثر في ربط خيال النحاة بهذه الحركات، وانشغالهم بها عمّا عداها من القَرائِن وإقامة العمل النحوي عليها، لتفسير الجملة العَرَبِيَّة كُلّها من خلالها، ولم تكتمل أداة النحو في أيدي الدؤلي وأصحابه، وإنّما كانت لهم ملاحظات مفككة غير مترابطة في أغلب الظن، شبيهة بما يقوله فقهاء اللُّغة في الظواهر التي يختصُّ بها علمُهُم ويقصدون به المعرفة لا التقعيد.
يمكن القول : إنَّ أبا الأسود الدؤلي أوّل من رسم الخطوط الأَوّلى والأشكال المتنوعة للنحو العربي من خلال تدوينه للحركات من فتح وضم وكسر، وجاء النحاة من بعده وسلّطوا الأضواء على هذه الخطوط وتقعيد هذه الأشكال، وكانوا هؤلاء تلامذة أبي الأسود (69هـ) ويمكن تحديد ذلك على وجه الدقة بتلاميذه  عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي(ت117هـ)، عيسى بن عمر      ( ت149هـ) وأبي عمرو بن العلاء ( ت154هـ) فمن بعد أبي الأسود جاء الحضرمي راسمًا بفكره الثاقب حدود المنهج لمَن جاء بعده، وألقى أسس المدرسة البصرية تاركًا لعبدالله بن أبي إسحاق توطيد دعائمها وإقامة بنيانها، لذا عُدَّ (أوّل من بعَّجَ النّحوَ) بواسطة تفصيل ما تركه الدؤلي وأصحابه من ملاحظات مُجْملة وربط ما كان مُبعثرًا من هذه الملاحظات ليبني منها هيكلاً للنحو تكتمل به القواعد الأصلية الكبرى على أقل تقدير من غير النظر إلى المسائل الصغيرة، أمّا عيسى بن عمر فكان يُدَوِّنُ كُلّ ما يسمعه عن العرب حتى قال مرة: «كُنتُ وأَنَا شَاب أقْعُدُ بِاللَّيلِ فَأَكْتبُ حتّى ينقطِعُ سوائِي»، ويبدو أنّه كان يأخذ اللُّغة سماعًا عن القبائل العَرَبِيَّة الفصيحة التي تجاور البصرة إذ لم يذكر أنّه رحل إلى البوادي للسَّماع، ومن ثمّ جاء بعده الخليل معتمدًا في كُلّ ما جمعه من اللُّغة في مُؤَلَّفِهِ (العين) وفي كُلّ ما بنى عليه قواعد النحو واللُّغة ونحوها على المَسموع عن الأعراب وقد سأله الكسائي مرة: من أينَ عِلْمُكَ هذا؟ فقال: من بوادي الحجاز ونَجد وتُهامة، أمّا الكسائي فقد حذا حذو الخليل إذ خرج إلى البادية ثمّ رجع وقد أنفدَ خمس عشرة قنينة حبرًا في الكتاب عن العرب سوى ما حفظه.
والخليل ومن سبقوه أو عاصروه من الذين اعتنوا بالسَّمَاع عن العرب والرواية عنهم هم شيوخ سيبويه، وقد اعتمد عليهم وعلى رواياتهم في الكتاب حتى أنّه لا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من نُقولٍ عن أبي عمرو بن العلاء أو عيسى بن عمر أو عبد الله بن أبي إسحاق أو يونس بن حبيب أو الخليل بن أحمد أو غيرهم من الرواة والنحاة المؤسسين لمدرسة البصرة، الذين اعتمد عليهم بعد شيخه الخليل في المسموع والمروي من كَلام العرب منثوره ومنظومه وهو ما يؤلف غالبية مادة الكتاب، كما اعتمد عليهم في تقعيد قواعد النحو والاحتجاج لموضوعاته المختلفة مَقيسها ومسموعها مطّردها وقليلها وشاذها.
ولم يقف الأمر بعلماء اللُّغة والنحو في أثناء جمعهم اللُّغة وتدوينهم إيّاها عند حد الخروج إلى البادية وتدوين كُلّ ما سمعوه بل أخذوا عمن جاء إليهم من الأعراب، ونجد أنّ من هؤلاء الأعراب الذين أخذ عنهم علماء اللُّغة والنحو وسمعوا لغاتهم عددًا كبيرًا منهم من كان يمتهن التعليم، ومنهم من كانت له مصنَّفات كثيرة في اللُّغة والشعر وقد أخذ هؤلاء الأعراب يتكسَّبون بما يروونه لعلماء العَرَبِيَّة من لُغَة وشعر وأصبحت الرّواية مهنة لهم بعد أن كانوا يروون الشَعر لمجرد الرّواية لا لغرضٍ آخر، ونجد ذلك في الكتب الكثيرة التي تركها لنا علماء العَرَبِيَّة الأوائل في ترجماتهم وكُلّها تَدلّ على تعمّقهم في الرّواية وتفهمهم للُّغة وكثرة سماعهم من الأعراب سواء بخروجهم إلى البادية أم عمن ورد المدن من الأعراب.
وأكثر هؤلاء الأعراب شهرة وعلمًا أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت210هـ) وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت 215هـ) وعبدالملك بن قريب الأصمعي (ت 217هـ) وهؤلاء الثلاثة من البصرة وهم عمدة الرواة في اللُّغة والشعر وعلوم العرب في النصف الأخير من القرن الثاني والربع الأَوّل من القرن الثالث للهجرة «وعنهم أخذ جل ما في أيدي الناس من هذا العلم بل كُلّه».
وظهور الحاجة الملحَّة إلى السَّمَاع متأتّية من خوف القوم على سلامة اللُّغة العَرَبِيَّة بعد أن اختلط أهلها بالأعاجم إثر الفتوح وسكنوا بلادهم وعاشروهم نشأ عن ذلك بسنّة الطبيعة أخذ وعطاء في اللُّغة والأفكار والأخلاق والأعراف وتنبَّه أولو البصر إلى أنّ الأمر آيل إلى إفساد اللُّغة وضياع العصبية من جهة وإلى التفريط في صيانة الدين من جهة ثانية إذ كانت سلامة أحكامه موقوفة على حسن فهم المستنبط لنصوص القرآن الكريم والحديث الشريف وكان في ضعف العَرَبِيَّة تضييع لهذا الفهم، نتيجة لذلك عُدَّ اللَّحن الباعث الأَوّل على تدوين اللُّغة وجمعها وعلى استنباط قواعد النحو وتصنيفها فقد كانت حوادِثِه المُتَتَابِعة نذير الخطر الذي هبّ على صَوتِهِ الغيورون على العَرَبِيَّة والإسلام.
وبِظُهُور اللَّحن دعت الحاجة إلى التَّدوين وذلك لا يحدث إلّا بوجود السَّمَاع عن الأعراب أو الرواة فمن هنا كان السَّمَاع سببًا مهمًا من أسباب القضاء على اللَّحن وعلى تفشّي حدوثِهِ في الإسلام، والأمر الأسوأ حدوثًا هو تسرّب هذا اللَّحن وشيوعه في قراءة القرآن الكريم.
هذا العامل وما خلفه من استهجان قابل به الناس هذه اللَّحنات والسَقَطَات التي لم تقع في الكَلام العادي حتّى يمكن التَّغاضي عنه، بل وقع في مِفْصَلٍ مهمّ في حياة المسلمين هو القرآن الكريم، هو ما دفعَ إلى وضع النحو ونشأتِهِ، وقد أخضعَ اللُّغَويون البيئة اللُّغَوية التي ينقلون عنها هذه المادة لقواعدَ عامةٍ اشترطوها قبل السَّمَاع وتتلخص هذه القواعد في أمور ثَلاثة هي:
1- المَآخِذ: والمقصود به أحوال العرب الذين تُؤخَذ عنهم اللُّغة؛ إذ إنَّ خير أحوالهم ما كان أعمق في التبدِّي وألصق بعيشة البادِية ولذا كان ممّا يفخر به البصريون على الكوفيين أخذهم عن الأعراب أهل الشِيحِ والقيصوم وحرشة الضباب وأكَلَةِ اليرابيع ، ولذلك نرى أنَّ البصريّين يعيبونَ على  الكوفيين أخذهم اللُّغة عن أكَلَةِ الشواريز وباعة الكواميخ، وذكر الفارابي أنّه: «قد يجب لذلك أن يعلم مَن الذين ينبغي أن يُؤخذ عنهم لسان تلك الأمة ، فنقول إنّه ينبغي أن يُؤخذ عن الذين تمكّنت عادتهم على طول الزمان في ألسنتهم و أنفسهم تمكّنًا يحصّنون به عن تخيُّل حروف سوى حروفِهِم والنطق بها ، وعن تحصيل ألفاظ سوى المركبة عن حروفِهم و عن الناطق بها ممن لم يسمع غير لسانهم ولغتهم أو ممن سمعها وجفا ذهنه عن تخيّلها ولسانه عن النطق بها» .
2- المكان: يقول الفارابي : «ولمّا كان سُكان البرية في بيوت الشعر أو الصوف والخيام والأحسية من كُلّ أمة أجفى وأبعد من أن يتركوا ما قد تمكّن بالعادة فيهم وأحرى أن يحصّنوا أنفسهم عن تخيّل حروف سائر الأمم وألفاظهِم وألسنتِهِم عن النطق بها وأحرى أن لا يُخَالطهم غيرهم من الأُمَم للتوحش والجفاء الذي فيهم ، وكان سكان المدن والقرى وبيوت المدر منهم أطبع وكانت نفوسهم أشد انقيادًا لتَفَهُّم ما لم يتعوّدوه ولتصوّره وتخيّله وألسنتهم للنطق بما لم يتعودوه، كان الأفضل أن تؤخذ لُغَات الأُمَّة عن سكان البراري منهم متى كانت الأمم بينهم هاتان الطائفتان و يُتحرّى منهم من كان أواسط بلادهم …وكان الذي تولّى ذلك من بين أمصارهم أهل الكوفة والبصرة في أرض العراق. فتعلّموا لغتهم والفصيح منها من سكان البراري منهم دون أهل الحضر، ثمّ من سكان البراري من كان أواسط بلادهم ومن أشدّهم توحشًا وجفاءً وأبعدهم إذعانًا وانقيادًا ، وهم قَيْس وتَمِيم وأَسَد وطَيّ ثم هُذَيل ، فإنَّ هؤلاء هم معظم من نقل لسان العرب . والباقون فلم يؤخذ عنهم شيء لأنهم كانوا في أطراف بلادهم مُخالطين لغيرهم من الأُمَم مطبوعين على سرعة انقياد ألسنتِهِم لألفاظ سائر الأمم المَطيفَةِ بهم من الحبشة والهند والفرس والسريانيين وأهل الشام وأهل مصر»  .
فالمكان الذي كان يُؤخَذ عنه إذًا هو وسط الجزيرة العَرَبِيَّة كبوادي نَجد والحِجَاز وتُهَامة ممن لم يختلط أهلها بالأمم المجاورة كالفرس والروم وغيرها، ولما كانت وسط الجزيرة العَرَبِيَّة بُقعة واسعة تَعددَت فيها مُستويات الاستعمال اللُّغَوي، كانت النتيجة حدوث خلط بين المُستَويات الاستعمالية المختلفة التي كانوا يأخذون عنها، فلذلك قد حددت هذه القبائل التي كانت بعيدة كُلّ البعد عن اللَّحن والخلط في الاستعمالات اللُّغَوية كما ذكر القُدَمَاء.
ويمكنُ القولُ : إنَّ قريش كانت أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وإبانة عما في النفس،  والذين نقلت عنهم اللُّغة العَرَبِيَّة وبهم اُقتدي وعنهم أُخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قَيْس، وتَمِيم، وأسَد، فإنّ هؤلاء هم الذين عنهم أخذ العربُ أكثر لغتهم ، وعليهم اتُكُلّ في الغريب، وفي الإعراب والتَّصريف ثمّ هُذَيل وبعض كِنَانة وبعض الطَّائِيين، ولم يُؤخَذ عن غيرهم من سائر القبائل، و لم يُؤخذ من حضري قط، ولا عن سكان البراري ممّن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأُمم الذين حولهم.
3- الزمان: قال الفارابي: «وأكثر ما تَشَاغلوا به من سنة تِسعين إلى سنة مائتين» إذ حدّوه بنهاية القرن الثاني الهجري في الحواضر ونهاية القرن الرابع في البوادي. وفي ذلك قال السيوطي:« فأمّا الزمان فقد قبلوا الاحتجاج بأقوال عرب الجاهلية وفصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني سواء أسكنوا الحضر أم البادية، أمّا الشعراء فقد صنفوا أصنافًا أربعة: جاهليين لم يدركوا الإسلام، ومُخَضرَمين أدركوا الجاهلية والإسلام، وإسلاميين لم يدركوا من الجاهلية شيئًا ومُحْدَثِين ، والطبقتان الأُوليَان يستشهد بشعرهما إجماعًا أمّا الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد بِكَلامها أمّا الرابعة فالصحيح أنّه لا يستشهد بِكَلامها مطلقًا، إذ أجمعَ العلماءُ على أنَّهُ لا يُحْتَج بكَلامِ المُوَلَّدين والمُحْدَثِين في اللُّغة والعَرَبِيَّة، وأوّل الشعراء المُحْدَثِين بشار بن برد، إذ احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقرُّبًا إليه؛ لأنّه كان قد هجاه، لتركه الاحتجاج بشعره ، وقد ختم الاستشهاد بالشعر بإبراهيم بن هرمة(ت159ه) وهو آخر الحجج، أمّا أهل البادية فقد استمر العلماء يدونون لغاتهم حتى فسدت سلائقهم في القرن الرابع الهجري
      أما مصادر السَّمَاع في العَرَبِيَّة فتقسم على الأقسام الآتية : القرآن الكريم وقراءاتِهِ ، الحديث الشريف ، أشعار العرب حتى نهاية عصر الاحتجاج ، أمثال العرب وكَلام فُصَحائِه.
المصادر والمراجع:
() في أصول اللُّغَة والنحو، د. فؤاد حنا طرزي.
(2) أخبار النحويين البصريين ، الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي (ت368هـ).
(3) الأصول دراسة ابستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، د. تمام حسان.
(4) الاحتكام إلى القِيَاس وحده في النحو العربي، فاطمة ناظم العتابي.
(5) طبقات النحويين واللُّغَوِييِن، لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي.
(6) الأصول، د. تمام حسان.
 (7) الاحتكام إلى القِيَاس وحده في النحو العربي.
(8) نزهة الألبَّاء في طبقات الأُدباء، لأبي البركات الأنباري ( ت477هـ) .
 (9) في أصول النحو: سعيد الأفغاني.
(10) البيان والتبيين ، الجاحظ.
(1) أثر القرآن والقراءات في النحو العربي، د. محمد سمير اللبدي.
 

شارك هذا الموضوع: