الشكوى لغة واصطلاحا :
د. دعاء كميل ضيف الله
قسم اللغة العربية                    
 
إن الاسم (الشكوى) جاء في معجم (العين) تحت الجذر اللغوي للفعل (شكو) ، وهو وتصريفاته (الشكوى والاشتكاء وشكاة) تتعلق بالإعلان عن المرض ، فـ (الشكو) هو المرض نفسه(1) ، وفي (جمهرة اللغة) :” شكوتُ فلاناً فأشكاني، أي أعتبني من شَكوايَ؛ ويقال: أشكاني فلانٌ أيضا، إذا حملك على أن تشكوَه، فكأنه عندهم من الأضداد … والشَّكاة والشِّكاية واحد. قال الشاعر*:
وعيّرها الواشون أني أحبُّها
وتلك شَكاةٌ ظــــــاهرٌ عنك عارُها
والشَّكِيّ: الذي يشتكي وجعاً أو غيره. والشَّكِيّ أيضا: المشكوّ إليه؛ شكوتُه فهو شَكِيّ ومشكوّ إليه” (2) ، وهي تعني الإخبار عن الفعل السيء ” شَكَوْتُ فلاناً أشكوهُ شَكوى وشِكايَةً وشَكِيَّةً وشَكاةً، إذا أخبرتَ عنه بسوءِ فَعَلَه بك”(3) ، وفي معجم مقاييس اللغة فإن (الشكوى) بمعنى “التوجع من شيء “(4) ، ويلاحظ هنا تنكير (شيء) فيكون إعماما للمعنى ماديا ومعنويا ، و” الشكو والشكاية والشكاة والشكوى إظهار البث، يقال شكوت وأشكيت، قال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله)* … وأصل الشكو فتح الشكوة وإظهار ما فيه وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء وكأنه في الأصل استعارة كقولهم: بثثت له ما في وعائي ونفضت ما في جرابي إذا أظهرت ما في قلبك. “(5) ، وفضلا عن المرض فإن الشكوى تكون من الغم أيضا(6) ،فيما يمكن التمييز بين الاشتكاء والشكاية بان” الاشتكاء: إظهار ما بالإنسان من مكروه. والشكاية: إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه”(7).وفي كتاب (التوقيف على مهمات التعاريف) وقد اختص بالمعاني الإسلامية ، فهو يعتمد ما جاء في مفردات الاصفهاني لمعنى الشكوى فهي ” اظهار البث ، وهو في الاصل استعارة من قولهم : بثثت له ما في وعائي ونفضت له ما في جرابي ، إذا اظهرت ما في قلبك”(8).
وفي (تكملة المعاجم العربية) ” شكا وشكى : تذمر من الشيء ومن الشخص … شكّى (بالتشديد): ابتلى، اضرّ به ، تشكى : صرخ وهو يئن ، … تشاكى : التشاكي : شكوى القوم بعضهم من بعض …شّكّاية : كثيرو الشكوى ، شاك : مريض”(9).
وفي (المعجم المفصل في المترادفات) جاءت لفظة (شكا) لترادف “تألم ، تضايق ، انزعج ، توجع ، تبرم ، تضجر “(10) ، والشكوى مرادفة لـ ” اعتراض ، احتجاج ، استياء، شجب ، تبرم “(11) ، فهذه المعاني هي التي ترشد الباحث إلى الشكوى إن لم تظهر باشتقاق معجمي من اصل الفعل شكا ،
فالمعاجم ذكرت دلالات عدة للفعل شكا ، يهم البحث منها ما ارتبط بالتوجع ، وما تعلق بالكشف والإعلان عن ذلك التوجع .
ففي معنى المرض فاللفظة تعبر عن اشد ما يواجهه الإنسان في حياته الدنيوية ، وبهذا تمثل ضعفه الفطري ، ولما كان هو الكائن الوحيد الناطق فهي التعبير عن إنسانيته بأبسط صورها ، وفي تطورها الدلالي فإنها تتعلق بالتصريح والإعلان ، فيكون المعنى الذي يهم البحث بأنها رد فعل إنساني لظروف خارجية يعمد فاعله إلى مشاركة المحيط به ، فهو متأثر ومؤثر .
ومن جانب آخر فإن الإنتاج الشعري الأول للفعل (شكى) ، ووصفه بالشعري ؛ لأنه دال على التذمر والألم والضجر إلا إن مداليله ذاتية تقولها النفس البشرية للترويح والتخفيف ، بمعنى اخر انه يقارب وظيفة الشعر الأولى ، فالشكوى حالة اعتراض تليق بالأديب أكثر من غيره فـ “القوة شيء يملكه الفنانون بوفرة , غير إن قوتهم تعمل داخليا ، خفية هي , ونادرا ما تسبب الضرر”.(12)
وهذا يحيلنا إلى معناها الاصطلاحي بوصفها مفردة أدبية نقدية :
أما مفردة (الشكوى) في معاجم المصطلحات ، فقد عدها الدكتور احمد مطلوب في معجم النقد الأدبي القديم “إحدى فنون الشعر وأغراضه”(13) ، وفي تعريف هذه المفردة لم يدرج في معجمه – وهو الذي استقصى المصنفات القديمة –  سوى كتاب (الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان) لابن قيم الجوزية (ت751هـ)، ذاكرا انه سماها (الشكاية) وصنفها على قسمين : ملفوظ بها وغير ملفوظ بها ، والقسم الأول قليل في القرآن والشعر ، واما الآخر فهو كثير وعزز الجوزية رأيه بعدد من الشواهد(14) ، وابن الجوزية أيضا لم يعط للمصطلح تعريفا . واستثناء من ابن الجوزية فقد أهمل النقاد القدماء تعريف مصطلح الشكوى في كتب الأدب العامة ، فضلا عن المصنفات التي اختصت بتعريف المصطلحات ومنها الأدبية ، مثل معجم التعريفات للجرجاني (ت816).
فيما غاب مصطلح (الشكوى) عن المعاجم الحديثة المختصة بالمصطلحات الأدبية للشكوى ، على سبيل المثال لا الحصر : المعجم الأدبي لجبور عبد النور ، ومعجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب للدكتور مجدي وهبه و كامل المهندس ، والمعجم المفصل في اللغة والأدب والنحو للدكتور اميل بديع يعقوب والدكتور ميشال عاصي،  والمعجم المفصل في الأدب للدكتور محمد التونجي ، فضلا عن المعاجم المختصة بالمصطلحات الأدبية المعاصرة والمستحدثة ، مثل معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة لسعيد علوش، ودليل الناقد الأدبي لميجان الرويلي ، وكل هذه المعاجم حاول مؤلفوها استقصاء أي معنى أدبي تداولته الكتب قديمها وحديثها .
أما النقد الغربي فإنه اهتم بالشكوى مصطلحا وغرضا قائما بذاته ، فالشكوى complaint “شعر غنائي يعلق على بؤس قائله ، وعادة ما يشير إلى تقلب مشاعر المحبوبة أو قسوة أوضاع العالم أو تعاسة الشاعر عموما “(15) ، فهي عنوان مستقل لنوع من القصائد الفرنسية في القرون الوسطى” ومثلما يشير إليها اسمها ، فإن الشكوى تقترح سلسلة من النواح ، التي يستدل إليها في الغالب ، من خلال العودة إلى قافية الكلمات التي تنتمي إلى مجال الشكوى … للتعبير عما يشعر به الشاعر من ألم وهجر “(16) ، وهم يعدون موضوعة الشكوى ركنا بديهيا في قصائد الحب ويميزون بينها والشكوى التي تكون مرتبطة بالرثاء أو تقلبات الحظ والحزن الشخصي للشاعر ، وينبهون إلى إن الشكوى تعدُّ من الأمور التي يمتاز بها خطاب النساء(17)  .
وقد تناولت عدد من الدراسات والبحوث الأكاديمية موضوعة (الشكوى) ، وسجل الباحثون نتيجة مفادها عدم إيجاد حد للمصطلح في إطار النقد الأدبي العربي ، وحاول كل منهم اجتراح تعريف لها ، منها أطروحة الدكتوراه المعنونة ( الشكوى في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري) للباحث ظافر الشهري وبعد أن ثبت مفهومها معتمدا معناها اللغوي ، صنفها غرضا أدبيا  : ” الشكوى غرض قديم في الشعر العربي ، فمنذ أن اخذ الإنسان يعبر عن ذاته مفصحا عن حاجاته في الحياة ، ومنذ أن أصبح يحس بوجوده في مجتمعه مؤمنا بالجماعة ، ومرتبطا بمن حوله من أبناء جنسه ، يتحدى معهم الصعاب ، ويواجه مشكلات عصره بدأ يشكو ، ويصور للآخرين همومه ، ومعاناته ، فوقف طويلا يناجي ذاته ، ويبثها ألمه تارة ، وأخرى ينطق باسم مجتمعه مجسدا قضاياه مهما كان حجمها وعمق تأثيرها”(18) ، ويذهب بعض الباحثين إلى أن الشكوى تظهر في الفنون الأدبية “لدى تعَقُّدِ ظروفِ الإنسان الحضاريّة وتطوّرها ، بحيث يَعجَزُ عَنْ مُلاحقَتها، والتحكُّمِ فيمَا تجرّهُ عليهِ مِنْ ظُلمٍ وَتَفاوتٍ في فُرَصِ العدل،والشّاعرُ يعرُضُ فيها إلى ما يُعانيهِ مِنْ أَلَمٍ وحِرمانَ ومرارة…وهي بعيدةٌ عَنِ الكَذِب والمداجَاة والمداهَنة؛لأنها تصدرُ عَنْ نفسٍ مُرهَفَة تَغلي بما يُشجيَها حَتّى تفيضَ على لسانِ صاحبَها شعراً”(19) ، وهي “محاولة من النفس الشاكية لخوض تجربة مختلفة , ومتقدمة عن التجربة الأولى / مجرد الشعور . وهكذا فالشكوى حالة إنفعالية تجاه مثير معين , أو عدة مثيرات , تصيب النفس المرهفة بالقلق والتوتر , حتى يسيطر عليها , ويستقر في مكنوناتها , فتضطر لإطلاقه من محبسه في محاولة للاستشفاء”(20) ، فالشكوى وسيلة التعبير للإنسان المضطر حين يعجز عن التخلص من مسبب ألمه (21) ، وكونها مادة لنص أدبي فهي رسالة لغوية عناصرها : شاك ، ومشكو إليه ، وموضوع الشكوى”(22).
ولو اعتمدنا ما تقدم به الباحثون ، وما ستعتمده هذه الدراسة ، يمكن القول ان الشكوى من الأغراض الأدبية الفطرية التي تسبق المدح والرثاء والهجاء وغيرها من الموضوعات التي احتفت بها كتب النقد الأدبي قديما وحديثا ، ولما كانت الآراء مختلفة في نشأة الشعر وتطوره إلى شكله النهائي(23) ، فإن الاتفاق قائم على إن الشعر يرتبط بالانفعال والقصد والخيال(24) ، وهو نوع من البوح ، ولما كان “البوح الوجداني إذن ضرورة حتمية في حياة البشرية ، بإغلاقه تنغلق آفاق الوجود الإنساني الواسع ، فلا يتبقى للإنسان غير عالم المادة وعالم الحواس “(25) ، آنذاك يمكن القول إن شعر الشكوى هو الشعر الأول الذي أنتجه الإنسان ؛ لأنه حين شكا لابد أنه شعر بإخفاق لسبب ما ، و”الإخفاق هو الطاقة المسيرة للفن : هذا ما يقوله علماء النفس “(26) ، وهذا الشعور الفطري لابد من أن يكون مبكرا حتى قبل أن تستقر قواعد الفن الشعري من وزن وعروض ذلك؛ لـ” إن شخصية الشاعر ينبغي ان تكون انقلابية ، فلا شعر يغزو قلوبنا بجدارة إذا عبر الشاعر فيه عن سعادته في الحياة ، ورضاه عن تفاصيلها جميعها ، وطمأنينته في العيش بثبات ونبات .. ولعل هذا يفسر ارتباط الشعر بالنكد الذي يندفع الشاعر في سياقه حرصا على بقاء الشعر ، غير مبال بالنتائج المترتبة على اندفاعه “(27) ؛ لان السعادة بحسب ارسطو لا داعي لتخليدها الأدبي فهي ” أجلّ وأفضل من أن تمدح”(28) .
فالبحث يرى إن الشكوى آلية دفاع نفسية يحاول من خلالها الإنسان المقهور الوصول إلى توازن نفسي ، وإذا توافرت أسباب الشكوى وغابت عن الساحة الأدبية عكس ذلك تماهي الأديب بالمتسلط فالشكوى في الشعر هي الاحتفاء الأدبي بالحزن ، وهي اعتراض الإنسان الواعي الذي استطاع تحديد مصدر وجعه ، وتمكن من ترجمته بألفاظ لغوية وأساليب بلاغية ، وهي أقدم موضوع نظم فيها الإنسان شعرا ، وهي أكثرها كمّا في النتاج الإنساني ، وإن تماهت في موضوعات أخرى.
الهوامش
()ينظر : كتاب العين : مادة (شكو) : 491.
*البيت من (الطويل) لأبي ذويب الهذلي / ديوان أبي ذؤيب الهذلي : 64.
(2)جمهرة اللغة : مادة (شكو) :2: 878.
(3)الصحاح : مادة( شكا) : 6: 2394.
(4)معجم مقاييس اللغة : مادة (شكا) : 3  : 207.
(5)المفردات في غريب القرآن:مادة(شكا) : 353.
*يوسف : آية : 86.
(6)ينظر : أساس البلاغة : مادة (ش ك و) : 400.
(7) مجمع البيان :9: 408  .
(8) التوقيف على مهمات التعاريف : 207  .
(9) تكملة المعاجم العربية : مادة (شكو وشكى): 6: 343-344  .
(10)المعجم المفصل في المترادفات في اللغة العربية : 331.
(11)م.ن. : 332.
(12) آفاق الفن:45.
(3)معجم النقد العربي القديم  : 2: 80.
(4) ينظر : الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان: 289.
(5)معجم المصطلحات الأدبية : 214.
(6) معجم النقد الأدبي الحديث  : 87.
(7)ينظر:A Dictionary of Literary Terms and Literary Theory   : 146.
(8) الشكوى في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري: 5.
(19) الشعر في الكوفة ، منذ أواسط القرن الثاني حتى نهاية القرن الثالث :65.
(20)الشكوى في شعر ابن نباتة  : 220.
(21)ينظر : الشكوى في شعر الأخطل (مقال) : 116.
(22) الشكوى في الشعر الجاهلي – دراسة في المكونات والأساليب : 6.
(23) ينظر : نشأة الشعر الجاهلي وتطوره (دراسة في المنهج) : 42.
(24) ينظر : معجم التعريفات : 109.
(25) الأديبة الإسلامية والبوح الوجداني (مقال) : 157.
26)آفاق الفن :47.
(27) التفكير النقدي وتحولات الثقافة – تشكل الرؤية في ظل حوار الثقافات: 82.
(28) الأخلاق: 79.
 

شارك هذا الموضوع: