الصيغة السردية
“إن الأدب فن قولي تكمن قيمته الأولى في (طريقة) التعبير عن مضمون ما، ومن خلال الاختلاف في طريقة التعبير ينقسم الأدب الى الأجناس المختلفة”().
والرواية تُعد إحدى هذه الأجناس الأدبية، فكل رواية قائمة على حكاية، وإن “اصل الحكاية ليست فناً لكن طريقة روايتها هو الفن”()
إن الاختلاف في طريقة التعبير في أي حكاية إنما صانعه الحقيقي هو الراوي، الذي ليس هو الكاتب في الحقيقة انما هو “فاعل هذا المنطوق الذي يمثل كاتباً”()، أو كما تعده سيزا قاسم: ” الأنا الثانية للكاتب”().
وعليه فإن “الراوي ليس هو المؤلف أو صورته بل هو موقع خيالي ومقالي يصنعه المؤلف داخل النص، قد يتفق مع موقف المؤلف نفسه، وقد يختلف وهو أكثر مرونة وأوسع مجالاً من المؤلف، لأنه قد يتعدد في النص الواحد، وقد يتنوع، وقد يتطور حسب الصورة التي يقتضيها العمل القصصي ذاته”().
وعليه فإن القارئ – أي قارئ الرواية- لا يحاور “الكاتب كشخص بل يحاور عمله الذي كثيراً ما يفارق كاتبه.”()
ومن ثم فإن القارئ ما هو إلا تقنية من تقنيات السرد الروائي ” يستخدمها القاص في تقديم العالم المصور، فيصبح هذا العالم تجربة انسانية مرسومة على صفحة عقل، أو ذاكرة، أو وعي انساني مدرك، ومن ثم يتحول العالم القصصي بواسطته – من كونه حياة الى كونه تجربة انسانية أو خبرة انسانية مسجلاً تسجيلات تعتمد على اللغة ومعطياتها.”()
فالراوي إذن يشكل عنصراً دالاً من عناصر البناء السردي ولا يمكن أن يوجد فن قصصي دون راوٍ، حيث أن “الكاتب يحمّله جزءاً من الرسالة الفكرية والعاطفية والجمالية التي يبغي توصيلها للقارئ من خلال النص والقارئ أيضاً يستخدمه في تأويل هذه الرسالة أوفي فهمها وفك رموزها مما يحملنا على النظر الى الراوي على أنها عنصر من عناصر الدلالة إلى جانب كونه عنصراً من عناصر البناء.”()
إذاً تشترك عناصر عدة لنقل رسالة المؤلف للقارئ ومن هؤلاء الراوي، وتعد أوضح “تجسيدية توضح المراحل التي تمر بها (الرسالة) بين المرسِل (المتكلم) أو(المؤلف) والمستقبل (السامع) أو (القارئ).
وبما أن الأدب فن يقوم على اللغة بالدرجة الأولى، فإن وسائله هي وسائل لغوية. وهذه “الوسائل اللغوية التي يتم بها التوصيل تختلف تبعاً لعوامل كثيرة ولكن تبقى لها بعض الثوابت التي تتحكم في هيكل البناء اللغوي، ويمكن أن تكون مفتاحاً له، وهذه الثوابت يسميها جاكبسون الموصلات أو متغيرات السرعة، ومن بينها التقسيم الثلاثي للضمائر الى: ضمائر المتكلم، والمخاطب، والغائب، والذي يلتقي مع تقسيم ثلاثي لوظائف اللغة يتمثل في الوظيفة التعبيرية (أنا المتكلم) (هو الغائب) ويلتقي أيضاً مع تقسيم ثلاثي في العمل الأدبي يتمثل في المؤلف (أنا) ، والقارئ (أنت)، والشخصيات (هو). ويرتبط ذلك في النهاية بميول بعض الأجناس الأدبية الى استعمال بعض هذه الموصلات أو متغيرات السرعة دون بعضها الآخر، فالشعر الملحمي مثلاً يركز على استعمال ضمير الغائب، ومن ثم على الوظيفة الذهنية للغة، في حين إن الشعر الغنائي يركز على ضمير المتكلم، ومن ثم على الوظيفة التعبيرية.”()
وعليه فإن الاختلاف الموجود في الأجناس الأدبية، انما موجده الراوي، الذي يتمثل تأثيره في ثلاثة مظاهر:
” أولاً: في القالب الفني للنوع الأدبي، إذ أن الراوي هو الذي يجعل الرواية رواية، والقصة القصيرة قصة قصيرة، ولذلك فإن لكل منهما نوعاً خاصاً من الرواة: الأول: توليفي متعدد الأصوات، أما الثاني: فهو أحادي الصوت.
ثانيا: تأثير هذا الراوي في البناء الفني للعمل الأدبي فقد ثبت أن لكل نوع من الرواة بنية نصية تلائمه.
ثالثا: تأثيره في الاسلوب اللغوي المستخدم في صياغة العمل الأدبي.”()
وعليه فكل رسالة نصية تتضمن: شكلاً ومضموناً، وما الشكل إلا ترجمان للمضمون، فلا يوجد شكلٌ دون مضمون. وتختلف الأشكال الروائية تبعاً لاختلاف الراوي، حيث أن تقنية “الراوي الشاهد في السرد الروائي تعادل تقنية آلة التصوير في العمل السينمائي.”()
ونقصد بالاختلاف، هو الاختلاف بالنمط السردي، الذي بدوره يؤدي الى الاختلاف في موقع الراوي، ومن ثم رؤيته.
فالكيفية التي يرى بها الرواة هي دلالة على رؤيتهم لما يرون.()
إذاً فدراسة النمط القصصي، ما هي إلا دراسة للكيفية التي بها يسرد عالم القصة ليصير مرئياً، والكلام على “نمط القصص يتحدد على مستوى الصياغة كأسلوب حتى أن بعض النقاد اعتبر الكلام على نمط القصص يعني دراسة التركيب اللغوي، والخصائص الاسلوبية التي تقيم التمايز بين الأصوات في العمل القصصي أو السردي الروائي.”()
وعليه فإن البحث عن أجوبة الأسئلة الآتية، هي تمثل التحليل في النمط القصصي، وهذه الأسئلة هي: “كيف يروي الراوي ما يرى، أو ما يعرف من أخبار ووقائع؟ هل يروي الراوي لنا التفاصيل كلها، وينقل حرفياً من مرجع؟ هل يختصر؟ هل يتصرف ؟ وهو إذ يفعل ذلك، هل يدع الشخصيات تقول بصوتها مباشرة؟ أم يروي بصوته عنها، أم أنه يداخل بين صوتها وصوته. وكيف؟”()
فالزاوية التي “يتخذها الراوي من الفعل المصور تحدد دلالة هذا الفعل، فإن هذه الزاوية أيضاً تصنع اللغة ذات القيمة التي تصاغ بها الأحداث، فاللغة توصل المعاني لكنها الى جانب ذلك تنقل رائحة المخاطِب الى المخاطَب.”()
وأول من تناول مسألة المسافة هو افلاطون في كتابه الثالث من الجمهورية، حيث أنه قد عارض بين “صيغتين سرديتين تبعاً لكون الشاعر (نفسه هو المتكلم) ولم يورد أدنى إشارة لإفهامنا أن المتكلم شخص آخر غيره، وهذا ما يسميه أفلاطون حكاية خالصة، أو لكون الشاعر على العكس يبذل الجهد ليحملنا على الاعتقاد بأنه ليس هو المتكلم، بل شخصية ما إذا تعلق الأمر بأقوال منطوق بها (وهذا ما يسميه افلاطون بالضبط تقليد أو محاكاة.”()
أما أرسطو فقد رأى في ” الملحمة هيمنة صيغة السرد (المختلط) الذي يجمع بين السرد والحوار.”()
يُدرس مصطلحا (العرض) و (القول) تحت مصطلح الصيغة السردية، التي تُعد مقولة من مقولات الخطاب القصصي.
لقد أثير حول مفهوم (الصيغة) العديد من النقاشات، لإحتفائه بالإبهام والتعقيد. وقد لخص الباحث سعيد يقطين هذه النقاشات بما هو آتٍ:
“1) هناك شبه إجماع من الذين تناولوها من الوجهة البويطيقية حول أولية توظيفها من لدن أرسطو وقبله افلاطون، وإن اختلفت طريقة أحدهما عن الآخر حسب فهم كل واحد منهما للأدب والمحاكاة.
2) في العصر الحديث يرجعها العديد من الباحثين (تودوروف، جنيت، وييلي، ويرونوف…) الى النقد الانجلو- امريكي، وبالأخص مع جيمس لوبوك في كتابه صنعة الرواية.
3) ترى الباحثة (سوزان رينجر) أن مدخليها الى مجال النقد هما ويليلك و وارين وليس جيمس أو لوبوك أو بيتش.
4) بعودتنا الى وارين و ويليلك نجدهما يتحدثان في نظرية الأدب عن كون كلمة السرد حين تقرن التخيل يجب أن تتضمن التعارض مع التخيل الشامل القابل للتمثيل المسرحي، إذ أن القصة يقدمها ممثلون صامتون أو يقصها راوٍ. ويشيران الى أن الدفاع عن الشكل المسرحي (العرض) احتج له (لودفيغ، و فلوبير، وجيمس…) وقبلهم جميعاً (ديكنز).
5) وعندما نبحث في كتابات الشكلانيين الروس نجد ايخنباوم في (حول نظرية النثر) يشير بدوره الى (اوتو لودفيغ) (1813،1865) الذي يميز حسب وظيفة الحكي بين شكلين للسرد: السرد بالمعنى الحرفي (الراوي) والسرد المشهدي (الحوار) بين الشخصيات.”()
ويعطي جنيت “المعنى النحوي لمادة Mode (صيغة) قائلا: اسم يُطلق على اشكال الفعل المختلفة التي تستعمل لتأكيد الأمر المقصود وللتعبير (…) عن وجهات النظر المختلفة التي يُنظر فيها الى الوجود أو العمل.”()
ويسميها تودوروف في كتابه (الأدب والدلالة) “سجلات الكلام”().
ويعرفها بأنها هي : الطريقة التي يعرض بها الراوي الحكاية ويقدمها للقارئ
ويحصر جنيت الصيغ الخطابية في ثلاثة مظاهر، هي:
“1- ان الخطاب المسرود أو المروي، هو طبعاً أبعد الحالات مسافة وأكثرها اختزالاً عموماً.
2- الخطاب المحول بالأسلوب غير المباشر: فحضور السارد نفسه بالاستقلال الوثائقي الذي يكون لشاهد […].
3- إن أكثر الأشكال (محاكاة) هو طبعاً ذلك الشكل الذي يرفضه افلاطون، والذي يتظاهر فيه السارد بإعطاء الكلمة حرفياً لشخصيته.”()