الطب الإسلامي في العصر الذهبي إسهامات الرازي وابن سينا
                             م .م محمد عاجل عطيه
كلية التربية للعوم الانسانية , جامعة كربلاء, العراق , كربلاء المقدسة
mohammed.ajel@uokerbala.edu.iq      07757044172
في رحاب الحضارة الإسلامية، خلال ما يُعرف بالعصر الذهبي (من القرن الثامن إلى الثالث عشر الميلادي)، شهد العالمُ نهضةً علميةً غير مسبوقة، تجسَّدت في مجال الطب بشكلٍ لافت. جمع العلماء المسلمون بين تراث الحضارات السابقة كاليونانية والفارسية والهندية، وأضافوا إليه إبداعاتهم التي وضعت أسسًا جديدةً للعلم الطبي. وفي هذا السياق، برز اسمان كعَلمين من أعلام الطب: أبو بكر الرازي وابن سينا، اللذان حوَّلا الممارسة الطبية من فنٍّ تقليدي إلى علمٍ قائم على الملاحظة الدقيقة والتجربة المنهجية.
أبو بكر الرازي رائد المنهج التجريبي 
يُعد الرازي (865–925م) أحد أبرز الأطباء في التاريخ الإنساني، وأول من ميّز بين الجدري والحصبة في كتابه الثوري “الجدرى والحصبة”، حيث وصف أعراض كل منهما بدقةٍ سريريةٍ فاقت عصره. اعتمد الرازي في أبحاثه على ثلاث ركائز:  
– الملاحظة السريرية المباشرة لتطور الأمراض وردود فعل المرضى.  
– التجريب المخبري، مثل استخدام الحيوانات لاختبار فعالية الأدوية قبل تطبيقها على البشر.  
– الأخلاق الطبية، حيث دعا إلى التعامل الرحيم مع المرضى، معتبرًا أن “الطبيب يجب أن يوهم المريض بالصحة، ويرجيه بها حتى وإن كان اليأس يساوره”. أما موسوعته “الحاوي في الطب”، فقد جمعت بين التنظير العلمي والتطبيق العملي، وظلت مرجعًا أساسيًّا في كليات الطب الأوروبية حتى القرن السابع عشر. لم يكتفِ الرازي بنقل معرفة الأقدمين، بل شكك في بعض نظريات جالينوس الطبية، قائلًا: «الحقيقة في الطب غايةٌ، وليس هناك مكان للتعصب لرأيٍ سابق».
ابن سينا فيلسوف الطب ومُنظِّمه 
أما ابن سينا (980–1037م)، الملقب بـ”الشيخ الرئيس”، فقد قدَّم إسهاماتٍ منهجيةً حوَّلت الطب إلى علمٍ مُنظَّم. يُعتبر كتابه “القانون في الطب” أحد أشهر الكتب الطبية في التاريخ، حيث جمع فيه المعارف الطبية من مختلف الحضارات، مضيفًا إليها اكتشافاتٍ مبتكرةً وجديدة مثل:  
– تشخيص الأمراض عبر تحليل النبض، وربطه بالتغيرات الفسيولوجية في الجسم.  
– فكرة العزل الصحي كإستراتيجيةٍ للحد من انتشار الأوبئة، والتي سبقت مفاهيم الصحة العامة الحديثة.  
– تصنيف الأدوية وتحديد جرعاتها بدقة، حيث ذكر 760 عقارًا مشتقًّا من النباتات والمعادن.  
كما ربط ابن سينا بين الصحة الجسدية والنفسية، مؤكدًا في كتابه الفلسفي “الشفاء” أن «الروح والجسد شريكان لا ينفصلان»، مُرسيًا بذلك أساسَ علم النفس.
المنهجية: جسر بين العقل والتجربة  
تميَّز الرازي بـالنزعة التجريبية، فرفض التقليد الأعمى لسلطة الأقدمين، ودعا إلى الاعتماد على الملاحظة المباشرة. في المقابل، اعتمد ابن سينا على المنهج النظامي، فدمج الفلسفة مع الطب، ورتب المعرفة في إطارٍ منطقيٍّ يُسهِّل تطبيقها. ومع اختلاف منهجيهما، اشترك العالمان في:  
– تطوير المستشفيات (البيمارستانات) كمراكز للعلاج والتعليم والبحث.  
– الاهتمام بالوقاية عبر التغذية السليمة وتحسين البيئة المعيشية.  
– نقل المعرفة إلى أوروبا عبر الترجمات اللاتينية، التي أصبحت نصوصًا أساسيةً في جامعات مثل مونبلييه وبادوفا.
الإرث بصمة لا تُمحى  
لا تزال إسهامات الرازي وابن سينا حجرَ أساسٍ في الطب الحديث:  
– الرازي يُعتبر أبو الطب السريري، حيث تشبه منهجيته “التجارب السريرية” المعاصرة.  
– ابن سينا وضع أسس “الطب المبني على الأدلة”، وفكرته عن العزل الصحي سبقت إجراءات مكافحة الأوبئة الحديثة.  
بل إن العالم الغربي استمدَّ منهما حتى مصطلحاتٍ طبية، مثل كلمة “Alcohol” (من العربية “الكحل”) التي قدمها الرازي في أبحاثه عن التقطير.
خاتمة: روح العلم والإنسانية  
مثَّل الرازي وابن سينا جوهرَ النهضة العلمية الإسلامية، التي جمعت بين احترام التراث والجرأة في الابتكار. يقول المؤرخ جورج سارتون في كتابه “تاريخ العلم”: «ابن سينا كان أعظم طبيبٍ في العصور الوسطى، والرازي أحد أكثر الأطباء أصالةً في كل العصور». اليوم، وفي زمن التحديات الصحية العالمية، تذكرنا إنجازاتهما بأن التقدم الطبي لا يُبنى إلا على التفكير النقدي والالتزام بالإنسانية، وهي قيمٌ ما زالت إرثًا حيًا يُلهم الأطباء والعلماء حول العالم.
المراجع  
– الرازي، أبو بكر، الحاوي في الطب.  
– ابن سينا، القانون في الطب.  
– جورج سارتون، مقدمة لتاريخ العلم (الجزء الثاني).  
– سيريل إلغود، الطب العربي في العصر الذهبي.  
– Peter E. Pormann and Emilie Savage-Smith, Medieval Islamic Medicine.  
– نزهة الناصري، الطب والمرض في الحضارة الإسلامية.  
 

شارك هذا الموضوع: