العتبات النصية في الرواية النسوية العراقية بعد 2003
لوحة الغلاف نموذجا
      تناولت هذه المقالة واحدة من العتبات النصية في الرواية النسوية العراقية بعد عام 2003 وهي لوحة الغلاف، ولمعرفة مفهومها الاصطلاحي والدلالي, وبيان أهميتها في الكتابة السردية بوصفها نصاً موازياً مكتفيا مؤثرا من جهة، وموجهاً الى فهم النص العام من جهة اخرى؛ لما تحمله هذه العتبة من إشارات ودلالات ترسم افكاراً أولية لدى القارئ حول ما سيواجهه في النص المقصود. وقد اعتنت الروائيات العراقيات بهذه العتبة النصية التي حملت صبغتها الخاصة, ولونها المتميز الذي اتقنته الكاتبات ايما اتقان, لتعكس بدورها  طموحات المرأة العراقية ومعاناتها الكبيرة والمستمرة في ظل ظروف مرهونة بطابع سياسي واجتماعي وثقافي مضطرب، وكذلك دور الكاتبات الاستثنائي في تشخيص المشاكل ومحاولة طرحها بالشكل الذي يليق بإمكاناتها الفنية والموضوعية . فأصبحت لوحة الغلاف في الأعمال الروائية النسوية بحد ذاتها نصا موازياً ذا رسالة متكاملة, تخدم بدورها النص الادبي وتمنحه وهجاً بطعم الوجع والألم الذي حملته المرأة العراقية اولاً, والمجتمع بأكمله ثانياً, لتنهض الكاتبة به لتكملة الفكرة وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي انمازت بها كل كاتبة عن الاخرى . 
لوحة الغلاف : 
    يشكل الغلاف أهمية كبيرة كأول عتبة تقابل المتلقي، وتفتح له أبوابا من أجل فك شفرة النص، لاسيما وأن النص والنص الموازي في علاقة ترابطية لا فكاك منها، فما يشتمل عليه النص الموازي هو مدخل للنص، والغلاف وما يشتمله هو أول عتبة تقع عليها عين المتلقي, فلا بد أن يكون عنصرا مستفزا يثير الفضول للتعرف على مكنون النص.
وقد أصبحت الصورة جزءا مهماً من الخطاب الروائي تحمل بين طياتها أغلب الأبعاد التأويلية والسيميائية وغيرها, ويتقاطع فيها المضمون السطحي والعميق ايضاً، لذا تتطلب”خبرة فنية عالية ومتطورة لدى المتلقي لإدراك بعض دلالاته، وكذلك للربط بينه وبين النص وإن كانت مهمة تأويل هذه الرسوم التجريدية رهينة بذاتية المتلقي نفسه، فقد يكشف علاقات تماثل بين العنوان أو النص عند قراءته له، وبين التشكيل التجريدي، وقد تظل هذه العلاقة قائمة في ذهنه” .
وقد اشتغلت الدراسة على لوحات مجموعة من الروايات النسوية العراقية التي أخذت معظمها صبغة نسوية، إذ احتلت صورة المرأة جزءا كبيرا يتراوح بين الكلية والجزئية، جسّد معاناة المرأة وتهميشها من قبل الآخر، كما جسّد كذلك حلمها في الحرية وتحقيق العدالة والمساواة وغير ذلك من أشكال التعبير التشكيلي.فقد ظهرت صورة المرأة على أغلفة بعض الروايات تعكس الصورة القاتمة والآفاق الضبابية لها في نوع من التوظيف السيميولوجي الذي لا يتيح الفهم المباشر, بل يُلجيء القارئ الى اعمال فكره ومخيلته لإدراك ذلك, وهو ما يسمى بالتوظيف الايحائي الرامز للوحة الغلاف, كما في غلاف رواية (سواقي القلوب) لأنعام كجه جي، إذ تظهر المرأة بجسد كامل وكف لرجل يقوم بإخفاء ملامح وجهها بسبابته محاولا مسحها بإصبعه, وللإصبع هنا دلالة التصغير والتحقير، فتبدو غير محددة الملامح، ولعل هذه الكف الكبيرة تشير الى الواقع الذكوري الذي يحاول طمس هوية المرأة لاسيما المرأة المتحررة، كما تنسجم الصورة مع مضمون الرواية بما فيها من اضطراب للهوية الأنثوية واحتباسها في جسد ذكوري , كما جاء الحديث فيها عن شخصية(ساري) الذي تحول إلى(سارة) .
 
وفي رواية (نساء العتبات) لهدية حسين نجد لوحة الغلاف موغلة في السواد تظهر في وسطها طفلة باللونين الأبيض والرمادي تقبض على كفها, مما يعمق الرعب في ملامح الطفلة, ويتكأ رأسها على جدار او عتبة سُلط الضوء عليها من مكان خاص, لتظهر بجانبها الأيسر وكأنها بقايا لعتبة او باب قديمة. وقد تمكنت الكاتبة من منح المتلقي الإحساس بهذا الخوف من العتبات الذي لازم الشخصية(أمل)خوفا من أن تكون واحدة من تلك النساء اللواتي اختزلن دلالة الفقد والحزن فيها . فكانت العتبات متنفسا خاصاً للبوح وتبديد هذا الحزن، فاللوحة لا تقدم تصورا نهائيا للموقف او الثيمة، لكنها تظل قادرة على تقديم بضع تفسيرات للنص تتغير مع كل تأمل جديد ودقيق لها .
ومن اللوحات التي أخذت بعدا تأويلياً خاصاً ورمزيا لوحة رواية (التانكي) لعالية ممدوح:
 إذ تضمنت هذه اللوحة شكلاً مرسوماً للتانكي(خزان الماء) يعلوه حذاء أحمرا كبيرا، اتصلت برباط الحذاء أنابيب متشعبة تنتهي بأربع صنابير سوداء، ويندلع من الصنبور الأسفل أحذية بدل الماء، اتخذت أنواعا مختلفة من الأحذية كالاحذية الرجالية والنسائية المتنوعة، وكذلك البسطال المدني او العسكري، ويتوسط رسم الخزان اسم الرواية مكتوبا بطريقة مجزوءة , إذ يعتلي الجزء الثاني باللون الأحمر الجزء الأول باللون الأبيض, ولعلها احدى الاشارات او الدلالات على غلبة العنف على السلام والاستقرار في العراق .وقد جاءت هذه اللوحة منسجمة مع المكان المحوري في الرواية وهو (شارع التانكي) الذي ضم بيت البطلة(عفاف)، فهذا الخزان يشكّل معلماً مهماً لساكني هذا الشارع؛ الذين كانوا يشكّلون الطبقة المثقفة من المهندسين والمعماريين والفنانين والوزراء السابقين والعلماء،  ويمثلون الرافد الرئيس للحياة الثقافية في مرحلة الستينيات من القرن الماضي . 
وقد تأخذ ايقونات اللوحة أبعادا مغايرة نوعا ما، فـ(التانكي) هذا الخزان الكبير الذي يقوم بتزويد الدور بالماء، وهي دلالة إيجابية بسيطة لكنها أخذت تعقيدا آخر عبر الصنابير الثلاثة المغلقة المتصلة به ، فالغلق إشارة  الى الصمت والخوف الذي تملّك اغلبية الناس في تلك المرحلة , ويعمق هذه الدلالة اللون الأسود، فهذا الشارع اقترن بأحداث إجرامية بتواريخ مختلفة كمّمت الأفواه، فكان أهم أحداثها  القتل دون ارتكاب خطأ, والإعدام رميا بالرصاص لمجموعة من الضباط عام 1963م. وشهد أيضا عام 2006 و 2007 عمليات التطهير العرقي والطائفي وكذلك السلب والدمار. فالصنابير أخذت دلالة الموت بدل الحياة (الماء) بعد غلقها وتلوينها بالأسود. كما شكل التانكي دلالة أخرى تمثل الاحتلال والسيطرة عبر شكله المكعب الذي يشبه بأرجله المركبة الفضائية، و( الفاذرية )هم  جنود هذه المركبة، ((دائما تصورتهم وهم ينزلون من مركبة فضائية تشبه تانكي الماي بأذرعه وأرجله الممتدة إلى باطن الأرض، وهم يقرؤون المستقبل وسوف يسيطرون وبالتدريج على البيئة المجاورة لنا)) فقد شكلت مدرسة الآباء اليسوعيين الأمريكان بداية لأهداف تبشيرية, انتهت بأهداف استعمارية كان آخرها دخول العراق عام 2003م . كما حاولت الكاتبة تصوير ذلك في مضمون روايتها, فقد مثّلت الصنابير الثلاثة حقباً متتابعة للتدخل الأمريكي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في العراق، وصنبور الأحذية يمثل ثورة الغضب اللفظي والعضلي لدى المواطن العراقي على حد تعبير الكاتبة((الحذاء موجود في الموسوعة الثقافية للوجدان العراقي كأعلى درجة من السباب القبيح، فليس لمقدور أحد المواطنين تفاديه، فعبره كسر عجرفة وشر فلان أو علان، ومن داخل تلك المنظومة قام السيد منتظر الزيدي بضرب بوش بفردة من حذائه)). وهذا يعكس الجانب السيميولوجي لدلالة الصنبور الرابع الذي يندلع بأحذية مختلفة الأنواع والأجناس؛ وكأنه يمثل المتنفس الوحيد لهذا الغضب. ولعل وضع الحذاء الكبير في أعلى التانكي هو إشارة لسحق جميع الحقب التي تمثلت بالتدخل والتواجد الأمريكي من احتلال وحصار. وربما يشير التانكي ايضا بلونه الأخضر المسود الى (البترول ) الذي كان سببا في شقاء العراق وتكالب دول الأستعمار عليه .
لقد أخذ (الحذاء) في مضمون الرواية شيئا من الألفة، فعملت الكاتبة على تثبيته وجعله أكثر وفاء للأمكنة, إذ يترك أثره في الشوارع ، فالحذاء مقرون بالقدم تجعل من القدم شخصا تحاكيه وتتحدث إليه. 


كاتب المقال 
أ.د  رفل حسن طه 
قسم اللغة العربية
 

شارك هذا الموضوع: