العوذ والإستعاذة عند الشعراء الجاهلين والمخضرمين
 للعوذ في المعجمات اللغوية تعريفات متعددة فقد ورد في معجم مقايس اللغة : (( عَوَذ َ: الْعَيْنُ وَالْوَاوُ وَالذَّالُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الِالْتِجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ لَصِقَ بِشَيْءٍ أَوْ لَازَمَهُ. قَالَ الْخَلِيلُ: تَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ – جَلَّ ثَنَاؤُهُ – أَيْ أَلْجَأُ إِلَيْهِ – تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، عَوْذًا أَوْ عِيَاذًا. ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فُلَانٌ عِيَاذٌ لَكَ، أَيْ مَلْجَأٌ. وَقَوْلُهُمْ: مَعَاذَ اللَّهِ، مَعْنَاهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ. وَكَذَا أَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ )) وقال صاحب كتاب العين فيه أيضاً : ((عوذ: أعوذ بالله، أي: ألجأ إلى الله، عَوْذاً وعِياذا. ومعاذَ الله: معناه: أعوذُ بالله، ومنه: العَوْذَةُ، والتّعويذ. والمعاذة الّتي يُعَوَّذُ بها الإنسان من فَزَعٍ أو جُنون)) ، ووردت لفظة(  العوذ ) في القران الكريم في قولهِ تعالى   { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وكذلك قولهِ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } وهو في كل ذلك يعني الِالْتِجَاءُ إِلَى الله ( سبحانه وتعالى) وقد اعتمدها الشعراء في نصوصهم الشعرية ، فله أثر لفظي ونفسي ومائز يكشف عمّا في داخل الإنسان من خوف أو فزع ، فالعوذُ باللّهِ ، ومعاذ الله ، واستعيذُ بالله ، واستعيذُ بالرحمن ،  واستعيذُ بالبيت كلها يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وقد وردت الاستعاذة في شعر عبد المطلب(ت45 ق . ه) منها لمَّا بُشِّر بولادة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَعْطَانِي
قَدْ سَادَ فِي الْمَهْدِ عَلَى الْغِلْمَانِ
حَتّى يَكُونَ بُلْغَةَ الْفِتْيَانِ 
أُعِيذُهُ مِنْ كُلّ ذِي شَنَآنِ

 
هَذَا الْغُلَامَ الطّيّبَ الْأَرْدَانِ
عِيذُهُ بِالْبَيْتِ ذِي الْأَرْكَانِ
حَتّى أَرَاهُ بَالِغَ الْبُنْيَان
مِنْ حَاسِدٍ مُضْطَرِبِ الْعِنَانِ



تلقى عبد المطلب في تلك الليلة بُشرى بولادة سيد هذه الأمة ( محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ليبدأ بعد ذلك بوصفِ ذلك المولود الذي بُشِّر به واصفاً إيّاه وصفاً قائماً على السجع متوقفاً عند تلك الصفات أو ما يسمى بالوقفة الوصفية ، وهذا دليل على سعة خيال الشاعر وإمكانانته الفنية ، وذلك لأن الوصف آليه فنية إستطاع عن طريقها عبد المطلب تسليط الضوء على التفصيلات لمظاهر الأشياء التي رآها جديرة بأن تكون محطّ أنظار القُرَّاء، فشرع في توثيق تلك الصفات راسماً أبعاد تلك الشخصية ، مُتخذاً من الكعبة المشرفة في توضيح ملامحها النفسية والجسدية والطباعية مستقبلاً ، وتميزها عن الشخصيات الأُخر، وما كان هذا إلاّ لبيان معتقده ومقدار إيمانه ، لذلك نجده مُستبعداً أن يكون أحدٌ مثله بدءاً من ولادته التي قد ساد بها في المهد على الغلمان -على حد قول عبد المطلب –  ولذلك فهو يُعيذه بالبيت ذي الأركان ، أن يحصِّنه وأن يحفظه من كل سوء ، سواء أكان من الحساد أم من غيرهم ، لذلك توجه الشاعر إلى الاستعاذة بالبيت ، ذلك المكان المقدس الذي اتسم بأن يقسم به في جميع ما جرى من أحداث بدءاً من بنائه على يد إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، فالشاعر حاول الحفاظ على هذا المولود متوجهاً الى البيت المقدس من أجل الدعاء لهذا المولود بالحفظ طيلة حياته ، وكذلك نجد الاستعاذة عند ورقة بن ونوفل ( ت18ه ) حينما استعاذة بالبيت خوفٍ من قتله، قائلاً:
أعوذ برب بيت الظلم منه
تركت لك البلاد وماء بحرين 
       
 
وبالرحمن إذ شرق المسيح
لأنزح عنك لو نفع النزوح

     
قصّ ورقة بن نوفل في هذه الأبيات ما دار بينه وبين الملك الجفني وهو يبحث عن شخصية تبلغ حزنه العميق وقلقه الى عمر بن أبي شمّر بعدما ضاقت به هذه الأرض الرحبة ، فالمكان هو نفسه الذي كان مستقراً فيه ورقة بن نوفل ، وينعم فيه بالراحة ، لكن الإحساس هو الذي يتغير تجاه المكان ، ومرد هذا التغير قوله في حق الملك نتيجة ما حدث لابن عمّه ليس اقلها الضيق ، وازدحام الهموم في نفسية الشاعر ، إذ ضاقت عليه الأرض بما رحبت بعدما علم  بما تمَّ احضاره من الملك في ما يخص القِدْر المغلي ، فهو يعوذ برب البيت وبالرحمن من الظلم ، وهذا التبدُّل في الموقف يستند إلى نفسيته التي عاشت القلق والخوف فالنفس (( تسكن إلى كل ما وافق هواها وتقلق مما يخالفه ، ولها أحوال تتصرف بها ، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها ، اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب ، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت )) ، وهذا هو الذي حصل فعلاً ، وقد أجاد فيه عبر الاستعاذة في الوصول الى غرضه ، والبوح عمّا في داخله من عقيدة وإيمان ، فالعوذ برب البيت هو العقيدة التي إلتزمها ورقة بن نوفل وتمسك بها ،  ولأبي طالب (ت10ه) قصيدة طويلة ذكر بها العوذ برب الناس من كل طاعنٍ يريد السوء لآل أبي طالب قائلاً:
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ
وَبِالْبَيْتِ، رُكنِ الْبَيْتِ، مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إذْ يَمْسَحُونَهُ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ
وَأَشْوَاطٌ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا
وَمنْ حَجَّ بَيْتِ اللهِ مِنْ كُلِّ رَاكِبٍ

 
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وباللَّه إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثُلِ
وَمِنْ كُلِّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلِّ رَاجِلِ

      إنَّ المتأمل هذا النص الذي هو من قصيدة طويلة تزيد عن مائة بيت يجد نفسه أمام شاعر قد وظّف شعره لحماية النبيّ محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قريش ، فدلالة المكان هنا شديدة الارتباط بالاستجارة المطلقة للنبي فضلاً على ذلك أنها تومئ إلى تكثيف الدلالة المرتبة بأثر الاستجارة على الفرد ، وهذا يعني أنَّ هذه القصيدة قد بُنيت على إدراك واعٍ لأثر الاستجارة برب الناس ، ومن ثم تلتها الاستجارة بـ( البيت ، ركن البيت ، والحجر الأسود ، وموطئ إبراهيم …) والشاعر ها هنا مؤمن كل الإيمان بالاستجارة برب الناس لذلك كانت الأبيات المعطوفة بعده مصدر راحة بعد القلق النفسي .
 ونرى أن صيغ العوذ والإستعاذة وردت في الشعر القرشي كالإستعاذة برب البيت ، ورب الناس والعوذ بالله ، فكانت خير مُعين لهم في خطاباتهم ، وهذه الصيغ مهما تنوعت وتعددت لا تتعدى من أن تصنَّف من ضمن الرجوع الى الله ( سبحانه وتعالى ) مستغلين ما توافرت لهم من ألفاظ الإستعاذة ليصورا بها الحالة النفسية التي وصلوا إليها تجاه الخوف أو الحزن ، وهي صورة حقيقة نابعة من النفس الإنسانية التي تتدفق بالأمل ؛ لأنها صادرة عن شاعر نفسه فعاش هذه التجربة التي عبّر عنها وشَعَرَ بها شعوراً عميقاً وهو على سياق واحد قبل الإسلام وبعده ، وهي من سمات الإنسان المؤمن بقضيته المطمئن في اللجوء الذي لجأ إليه وهو طريق النجاة. 



شارك هذا الموضوع: