العولمة
(واثرها في التغير المورفولوجي للمدن العربية الاسلامية)
م. د. نهى نعمة محمد الموسوي
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم الجغرافية التطبيقية.
إنّ العولمة مصطلح جديد يعبّر عن ظاهرة قديمة، أدّت إلى جعل العالم قرية إلكترونيّة صغيرة تترابط أجزاؤها عن طريق الأقمار الصناعيّة والاتصالات الفضائيّة والقنوات التلفزيونيّة، وقد ورد عن علماء التاريخ أنّ العولمة ليست ظاهرة جديدة بل قديمة ترجع في أصلها وبداياتها إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، إذ ظهرت مع بداية الاستعمار الغربي ، ثمّ ارتبطت بتطور النظام التجاري الحديث في أوروبا، مما أدى إلى ظهور نظام عالمي معقد اتصف بالعالميّة أُطلق عليه اسم العولمة.
تعرف العولمة بانها : ظاهرة تاريخية بالغة الأهمية لها ابعاد متعددة الوجوه ، ومناهج متنوعة الميادين ، تشمل تفاصيل العالم كافة ، مع كل ما يتصل منها بتواريخ النظام الدولي العالمي الحديث وتشكل مصطلحا ومضمونا يرتبطان بالكونية ، وبأنظمة الانسان المتنوعة وبقواعد المجتمع كافة . اذن فالعولمة هي حركة تاريخية تتجه لتغطي مجالات الحياة كافة . ومصطلح العولمة يرادف مصطلح الشمولية والتي تستخدم على نطاق واسع للتعبير عن انفتاح العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ، فالعولمة الثقافية هي عملية انتقال الأفكار والمعاني والقيم إلى جميع أنحاء العالم لتوسيع وتعزيز العلاقات الاجتماعية ، وتتميز هذه العملية بالاستهلاك والاستخدام الشائع للثقافات المنتشرة والمتعارف عليها سيما في تلك المدن عالمية التأثير.
للعولمة مجالات عديدة تبرز في الجانب الاقتصادي والسياسي والثقافي والتقني ، وتعد من الظواهر التي انتجها الفكر الغربي ولكن بنكهة وهيئة جديدة . تضاربت وجهات النظر كثيراً حول مفهوم العولمة (Globalization ) وتأثيراتها في المجتمعات العربية ، فهناك من يحذر منها ويحاول تجنب الانغماس فيها ، وهناك من ينظر لإيجابياتها المفرطة ويدعو إلى تطبيقها ، إلا أن الدراسات الموضوعية تؤكد بأن للعولمة بكافة تفصيلاتها آثاراً ايجابية وأخرى سلبية.
اذ ان لكل ظاهرة عالمية جانبها المظلم، وينطبق ذلك على العولمة، إذ أثرت سلبًا على العديد من الجوانب، نذكر منها : فقدان الهوية الثقافية، في الوقت الذي أدت فيه العولمة إلى الاندماج الثقافي عالميًا، أدى ذلك إلى فقدان الهوية المحلية الخاصة بالأفراد والجماعات، وأفقدها عاداتها وسماتها المميزة، مما أفقد البشرية ما يسمى بالتنوع الثقافي العالمي، وظهور المشاكل الاقتصادية ، كما تفرض أيضًا تحديات على الحفاظ على الأنماط المعمارية المحلية للمدن العربية. تخاطر المدن العربية الإسلامية بأن تصبح متجانسة لأنها تتبنى جماليات معمارية مماثلة متأثرة بالاتجاهات العالمية. يمكن أن يؤدي هذا إلى تآكل الشخصية الفريدة والأهمية التاريخية والتراثية لها ، مما يقلل من التنوع الثقافي الذي يجعل كل مكان مميزًا.
تعد المدينة بصورة عامة والمدينة العربية بصورة خاصة اكثر من مجرد ظاهرة جغرافية او تأريخية فحسب ، بل هي اولاً وقبل كل شيء ظاهرة ثقافية – دينية اتسمت بتعمير وتنظيم مكاني وامتزجت فيها القوانين المادية والقيم الروحية الإسلامية . ان ابرز ما يميز النسيج الحضري في مدينة العربية الإسلامية القديمة هو نسيجها العضوي المتضام (المتراص) المتسم بالتكامل والتماسك والوحدة وخاصية الانفتاح نحو الداخل ، اذ تظهر المدينة كبنية متلاحمة الاجزاء مكونة من مجاميع عمرانية متراصة مستمرة غير متقطعة وارتفاعات متقاربة تكاد تكون بمستوى واحد عدا تفرد المسجد التي يتميز بارتفاع مآذنه المميزة ، إذ ساعد اتجاه الحياه التي فرضتها الظروف البيئية الطبيعية والاجتماعية على تأكيد هذا المظهر التخطيطي للمدينة ،لذا تمتاز المدينة التاريخية في التدرج في نسيجها الحضري وعلى جميع المستويات،وقد ساهم هذا النوع من التخطيط في توفير اواصر المحبة والالفة بين السكان ، كما كان له الاثر الكبير من الناحية الاجتماعية والامنية الى جانب الحماية المناخية ، وبحسب المراحل المورفولوجية التي مرت بها ،إذ تمثل مورفولوجية المدينة ( Morphology Urban ) بأنها تفاعل الشكل مع الوظيفة وينتج عنها المظهر الخارجي او الهيئة الخارجية للمدينة وتحليل عناصره الداخلية التي تشكلت عبرها بنية المدينة العمرانية.
يبرز اثر العولمة وخاصة (العولمة الثقافية ) على مورفولوجية المدينة العربية و(هوياتها العمرانية ) من خلال إقحام الأشكال والتكوينات المادية الجاهزة وفرضها في ثنيات النسيج الحضري بغض النظر عن درجة ملاءمتها من الناحية الثقافية والبيئية ، فالهوية تمثل خصوصية الذات وما يتميز به الفرد أو المجتمع عن الغير من خصائص ومميزات وقيم وعادات. والهوية العمرانية للمدينة تتمثل بتميز تلك المدينة عن غيرها بصفاتها وخصائصها والتي تعتمد في هويتها على أنشطتها السائدة فيها ،فالعولمة تسهم في ضخ الأفكار العمرانية والمعمارية الغربية داخل تركيبة وبنية المدينة. مما يتسبب بتشويه الهوية العمرانية للمدينة العربية الاصيلة ، ويبرز اثر العولمة واضحا في العديد من المدن العربية مثل مدينة دبي ، اذ نلاحظ هنالك تناغم بين المدينة العربية والمدن عالمية التأثير.
ختاما : نظرا لما تتمتع به المدينة العربية بنظام عمراني وبناء مورفولوجي أصيل حافظ على هوية الإسلام وتمكن من استيعاب التغييرات السكانية ومتطلباتهم الوظيفية في خضم المكان طيلة دهوراً من الزمن ، بأسلوبه العمراني والمعماري المتميز. الا ان العولمة قد أثرت بشكل كبير في نقل ثقافة وأشكال ونماذج المدن العالمية المتحضرة نحو المدينة العربية ، وبالتالي تطبيقها نسبياً ، إذ نرى بعض المدن العربية قد انساقت بالكثير من تفصيلاتها لتطبيق تلك التجارب العالمية، مما اثر سلبيا على هويتها العمرانية .اذ تظافرت مجموعة من العوامل ساهمت في التغير الموروفولوجي لمدننا العربية أهمها ، التطور العلمي والتكنولوجي الذي أحدث طفرة حضارية في كافة المجالات .فضلا عن تطور وسائل الإعلام من فضائيات وصحف الكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي والتواصل عبر البريد الالكتروني، وانتقال أنماط العمران من بيئة لأخرى ومن مجتمع لاخر ، كما ان وضع المخططات الأساسية للمدن العربية وخاصة مدننا العراقية في الوقت الحالي دائما يعتمد على شركات عالمية متخصصة مما كان له الدور الأكبر في نقل الثقافة الغربية تجاه المدينة العربية واستنساخ عمارة الحداثة وزرعها في نسيج العمراني.