الفتن والثورات في العصر الاموي واثرها على مالية الدولة
ا. د عبير عبد الرسول محمد التميمي
ان المتتبع لتفاصيل الوقائع والحوادث التي عصفت بدولة الخلافة خلال القرن الاول الهجري وما تلاه الى نهاية الحكم الاموي , يستخلص الاثار السيئة التي تركتها الفتن الثورات على مالية الدولة طوال تلك المدة , وعلى الرغم مما كان يتخللها من فترات الاستقرار والسلم في بعض الاحيان .
ويمثل الاضطراب السياسي والاقتصادي في عهد عثمان بن عفان , وحصار الخليفة ومقتله اول مقدماتها , وقد اعقب هذا الحدث سنوات من الحروب الداخلية وعدم الانصياع لأوامر الامام علي عليه السلام من قبل بعض الولاة وعلى رأسهم معاوية , وخروج الخوارج والفتن التي لحقتها من حرب البصرة , وتوقف الفتوحات التي كانت تشكل آنذاك موردا رئيسا من موارد بيت المال بما تضمنته من غنائم وفيرة , لمدة تقرب من الخمس سنوات , اثر بالتأكيد على مالية الدولة كونها لا تعتمد الا على استحصال الاموال بغض النظر عن تسهيل وتشجيع الانشطة الاقتصادية الاخرى والتي بدورها تحرك السوق وتنشطه الى ابعاد كبيرة , فضلا عن سوء الجمع والتوزيع لهذه الموارد حال دون نماء المال ووفرته واستقرار الاوضاع السياسية واستقلالها , لذلك تعرض الحكم الاموي الى ازمة حقيقة مما دفع معاوية بن ابي سفيان لمصالحة الروم على مبلغ من المال يؤديه اليهم , وهذا من اخطر أثار الازمات الاقتصادية ان تفقد الدولة هيبتها , وتتنازل عن مبادئها وتذهب للمصالة والاتفاق مع العدو , بل وتدفع اليه الاموال من اجل تحصيل الرضا والقبول , ومن ثم تفرغ معاوية بعدها لتصفيه خصومه , وانهاء وتقليل الثورات المعارضة لحكمه وسياسته , الا ان استمرار الفتن ولمدة خمس سنوات, قد افقد الدولة الناشئة هيبتها مما ادى ببعض الولايات البعيدة الى تنكرهم اتفاقيات الصلح مع معاوية وامتناعهم عن اداء المال المقرر عليهم الى بيت المال ,بعد ان شهدوا ظلم النظام الحاكم واستبداده ,وازدادت رقعة المعارضة وامتنع اهل الخراج في فارس وكرمان عن الطاعة وكسروا الخراج , وامتنعت كل ناحية فيها واخرجوا عمال الخراج وتنكرت خراسان للاتفاقيات الموقعة مع المسلمين ,وامتنعت عن اداء ما عليها من اموال ونتيجة لذلك فقد تناقص دخل البصرة التي كان خراج المناطق الشرقية يؤول الى بيت مالها , ولم يعد قادرا على دفع العطاء للمهاجرين الجدد .
وعلى الرغم من استئناف حركه الفتوح من جديد بعد استقرار الامور لمعاوية لمده تقرب من العشرين عاما, الا انها تباطأت من جديد بفعل حوادث الفتن الاخرى للمدة (60 – 73 هــ) ,ولربما لا نبالغ اذا قلنا إن الفتن والثورات التي شهدها النصف الثاني من القرن الاول الهجري , في ولايات الدولة سيما العراق كانت خطرة على مؤسسة بيت المال واشد من الفتن والثورات التي شهدها النصف الاول من هذا القرن .
ففي زمن عبد الملك بن مروان حصدت الدولة الاموية نتائج هذه الفتن فتجلى ذلك ببروز ازمة مالية حادة وتناقص الواردات تناقصا ملحوظا ,ففي العراق , مثلا بلغ ما انفقه الحجاج على بناء واسط وحرب ابن الاشعث خراج العراق لمده خمس سنين .
كما شهد العراق عدة ثورات أنهكت موارده الاقتصادية ,وكان ابرزها حركة ابن الزبير (1 هـ – 73 هـ), في الحجاز والعراق وثورة المختار ابي عبيد الثقفي (1 هـ / 622 م – 67 هـ/686 م) في الكوفة ومعاركهم ضد المروانين بالشام, بالإضافة الى ما انفقته الدولة على حركات الخوارج مثل : الازارقة في منطقه البصرة وشبيب الخارجي في سواد الكوفة , وكانت هذه الثورات سببا في احضار جيش شامي الى العراق وبناء مدينه واسط من واردات العراق .
لقد كان لهذه الثورات تداعيات وانعكاسات خطيرة وسيئة على واردات بيت المال فقد انهكت النظام الاقتصادي للدولة الحاكمة والتي لم تكن تتورع او تكف لتغير سياستها وتقبل الطرف الاخر واعطاءهم حقوقهم المسلوبة , فلو اخذنا ثورة ابن الاشعث إنموذجا لادركنا مدى ما كانت تحدثه تلك الثورات من فوضى تؤدي في اغلب الاحيان الى الحاق الضرر بأنظمة الري وتقلص العمارة في منطقه سواد الكوفة والبصرة ومنطقه البطائح , بالإضافة الى تدمير مؤسسات الدولة حيث احرق الثوار الديوان , واستولوا على اراضي الصوافي المسجلة فيه, كما إن الخوارج كانوا يقومون بجباية كثير من الاموال من السكان, وكان كثير من الفلاحين وبعض عمال الخراج ينضمون الى الخروج رغبة منهم في كسر خراجهم , فضلا عن ما كان يرافق حركات التمرد والثورة من محاولات الاستيلاء على بيوت الاموال والمخازن اينما وجدت والاستيلاء على ما فيها من اموال عينية وقسمتها بين انصار الطرف الغالب , وخاصة ان المبالغ التي كانت تحويها بعض بيوت الاموال هذه كانت تصل الى مقادير عظيمة وهائلة, ومما لاشك فيه إن ذلك كان يضعف من قدرات الدولة المالية.