المقالة الأولى / القسم في القرآن الكريم
وعلاقة المقسم به والمقسم عليه
القسم هو أحد أساليب اللغة المتعددة ، إذ يعد أحد طرق توكيد الكلام ، وإبراز معانيه ومقاصده على النحو الذي يريده المتكلم ، إذ يؤتى به لدفع انكار المنكرين، أو إزالة شكك الشاكين ، بأن كل ما يأتي بعد القسم مجزوم به ، ممّا يبعث في نفوس المخاطبين الطمأنينة بصحة الكلام ، فالأساليب الخبرية تختلف باختلاف غرض المتكلِّم وحال المخاطب فإذا كان المخاطَب خالي الذهن، جاءه الخبر من المتكلم من غير توكيد بالقسم ولا بغيره ، وإذا رأى المتكلم بأن المخاطَب أخذ يشك فيما يقوله ، أكَّدَ له القول بنوع من أنواع التوكيد وأهمها القسم ، أمّا إذا رأى المخاطَب ينكِرُ قوله، كان التوكيد أولى وألزم، فجاء القسم في كتاب الله ؛لإزالة الشكوك ، وإحباط الشبهات ، وإقامة الحجة ، وتوكيد الأخبار لتطمئن نفس المخاطَب ، لاسيّما في الأمور العظيمة التي أقسم عليها ،وقد تعددت صور القسم في القرآن الكريم ؛ إذ جاءت الأقسام فيه ما بين ظاهر ومضمر، وللقسم أربعة أركان : الأول : المُقْسِم وهو إمّا الله وإمّا العباد والثاني المُقْسَم به والثالث جواب القسم ، أو المقسم عليه والرابع أدوات القسم .
وأكثر أدوات القسم استعمالا في القرآن الكريم هي الباء والواو ، فتدخل على كل محلوف به، والأصل فيها هي الباء، ولذلك خصّت بجواز ذكر الفعل معها نحو: (أُقسِمُ باللهِ لتفْعَلنَّ) ، ودخولها على الضمير نحو: (بكَ لأفعَلنَّ) ، واستعمالها في القسم الاستعطافي نحو: (بالله هل قامَ زيدٌ) ، وتفيد الباء الإلصاق فهي تلصق فعل القسم بالمُقسَم به ، وفائدتها أيضا أنّها تضيف ما قبلها إلى ما بعدها ؛ لأنّ فعل القسم في الكلام لا يصل بنفسه إلى المقسم به ، إلّا بالباء ، لأنّها الأصل في تعدية الأفعال إلى الأسماء ، وليس ذلك مع الواو والتاء ، ، وممّا جاء في التنزيل في إثبات فعل القسم وفاعله معها ، كقوله تعالى:﴿وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾(النحل :38) ، أو حذفهما ، كقوله تعالى:﴿ قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾(الأعراف :16) ، والتقدير : أقسم بما أغويتني ، فالباء في هذا الموضع أحد وجهين أمّا القسم أو السببية .
كما وردت (التاء) في مواضع القسم في القرآن الكريم ، إلّا أنّها أقل استعمالا في الكلام من الباء والواو ، وأقل دورانا على الألسنة ، وأبعد من إفهام العامة ، وما يميزها عن باقي أدوات القسم ، انها اختصت بالدخول على لفظ الجلالة فقط في القرآن الكريم ، واختصاصها به في أسلوب القسم ، لذلك هي آكد من غيرها في القسم ، وفيها معنى التعجب والتفخيم كقوله تعالى :﴿قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ﴾(يوسف :85) .
أمّا الغرض من القسم هو لبيان فضيلة ومكانة المقسم له ، وتبقى هناك العلاقة قائمة بين المقسم به والمقسم عليه استدعت اقترانهما ، كما نجد في كل موضع من مواضع القسم تناسبا خاصّا بين الأثنين يضيف جمالية في التعبير القرآني ، ويؤدي إلى إيصال الفكرة بصورة مستساغة ، دونما تكلف وعناء ، ولذلك فكل ما يراد إيصاله بقسم ما يستدعي مقسما خاصا به ، وممّا جاء في الكتاب الكريم من صور القسم تتجلّى بها ما أردنا بيانه قوله تعالى:﴿ وَٱلضُّحَىٰ وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ﴾ (الضحى :1ـ3) ، وقد ذكر المفسرون أنّه لمّا احتُبس الوحي على الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعدة أيام ، بادر المشركون إلى التنكيل بالرسول وبالرسالة المحمدية ، بأنّه قد ودّعه ربّه وقلى ، فالمقسم به هو (الضحى) وهو صدر النهار، ووقت ارتفاع الشمس، والليل إذا سجى وسكن ، وأمّا المقسم عليه أنّ ربّ محمد لم يتركه ،ولم يبغضه ، ووجه العلاقة بين الأمرين ، هو أنّ نزول الوحي يناسب الضحى ، ونور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل يناسب نور الوحي نجوما ، وبعد احتباس يتلاءم وتعاقب الليل والنهار ، إذ لو أبدل تعالى المقسم به بآخر ، لما برزت هذه اللمحة البيانية والجمالية ، ولما لامست الفكرة الوعي الإنساني بهذا الوضوح .
وقوله تعالى:﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ﴾(النجم :1ـ2) ، اقسم الله بالنجم وهو الكوكب الطالع الذي يضيء في السماء ، ثم يسقط نحو الغروب ، أمّا المقسم عليه هو نفي الضلالة والغي عن النبي ، ووجه الصلة بينمها أنّ النجم عند الهوي والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس بعدما غرقوا في بحر الظلمات ؛ لأنّه لا ينطق عن الهوى ، إنّما هو وحي يوحى إليه .
المصادر
ـ دراسات في علوم القرآن ، محمد بكر إسماعيل .
ـ الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق ، عائشة بنت الشاطئ .
ـ التفسير الكبير ، فخر الدين الرازي .
المقالة الثانية / ظاهرة الحذف في اللغة العربية
الحذف ظاهرة لغوية مشتركة بين جميع اللغات الإنسانية ، والذي يميز هذا الظاهرة في اللغة العربية دون باقي اللغات هو القرآن الكريم ، فقد نال الحذف اهتمام القدامى والمحدثين من العلماء العرب ؛ لوروده في أغلب آيات القرآن المنزل ، ونجد لهذه الظاهرة أصلا عند العرب قديمًا ، ولا يمكن تحقيقه من غير دوافع ، أو من دون وعي بوجوده ، فالحذف إنّما يكون إذا عَلِم المخاطَب به ، أو وجود ما يشير إلى ذلك في الكلام ، فيكون المتلقي لديه علم بالكلام المحذوف ، فهو من سنن العرب وخصائص العربية ، فإنّ من عادة العرب الإيجاز والاختصار ، والغاية منه هو الاقتصاد في الكلام ، والاستغناء بقليله عن كثيره .
وتجدر الإشارة إل أن الحذف منذ القدم اعتبر مسألة لغوية تعبر عن مبدأ أساسي في الخطاب ، ويتمثل هذا المبدأ بالاختصار اللغوي الذي يلجأ إليه المتكلم ، إذ اعتبره بعض البلاغيين فنا خطابيا فيه بعد بلاغي جمالي ، فالحذف عند أهل النحو ، وأهل المعاني والبيان يكون بحذف شيء من العبارة لا يخل بالفهم عند وجود ما يدل على المحذوف من قرينة لفظية أو معنوية ، وممّا يبين هذا ما جاء عن أبي عمرو بن العلاء حين سئل : أكانت العرب تطيل ؟ فقال نعم لتبلغ ، قيل أفكانت توجز؟ قال : نعم ليحفظ عنها ، فالعرب تميل إلى الإيجاز أكثر من الاسهاب ، ويتضح من ذلك كله أن الحذف هو رب من البيان ، وصنعة البلاغة ، حيث أن المحذوف يضفي على النص فصاحة وبيانا ؛ لأنّ كثيرا من الالفاظ مستقبحة الظهور ، ويتحقق من حذها حسن ورونق تستلذه النفس ، وتستعذبه الآذان .
ولم يَغب عن النحاة الأوائل فكرة المقام ، وسياق الموقف وعناصره المتكونة من متكلم ومخاطَب ، والعلاقة بينهما ،والظروف المحيطة بهما ، فجاء كتاب سيبويه هذا بابٌ يكون المبتدأ فيه مُضمَراً ويكون المبني-الخبر-عليه مظهَراً وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آيةً لك على معرفة الشخص فقلت: (عبدُ اللهِ وربّي)، كأنّكَ قلتْ: (ذاكَ عبدُ الله)،أو(هذا عبدُ الله)، أو سمعتَ صوتًا فعرفتَ صاحبَ الصوت فصار آية لك على معرفته فقلت: (زيدٌ وربّي) ، فالمقام وسياق الموقف هما من كشفا الحال التي عليها المخاطِب ، وتبيان المعنى المراد ، وهذه العملية هي عملية تخاطبيه ، جمعت عناصر التخاطب المتكونة من: مُخاطِب ، ومُخاطَب ، وخِطَاب ، ومَسَاق؛ إذ تتفاعل هذه العناصر الأربعة لإضفاء عنصر الاستخدام المُجدي على جمل اللغة ، فتعرض لها حالات من التكيف تؤدي إلى الإفادة الفعلية منها ، وذلك حين تخرج من حيِز النظام اللغوي إلى التجلي الحقيقي ، فالإضمار من الظواهر البارزة في نظام الجملة العربية ، وهو مفهوم لا يبتعد كثيرًا عن الاقتضاء في علم التداول الحديث وهو المفهوم الأهم في علم التداول باستناده إلى مبادئ عامة تقع خارج تنظيم اللغة ، وتهدف إلى الاتصال القائم على مبدأ التعاون الذي قرره غرايس ، مع ملاحظة أن قواعد التخاطب تقوم على هديه ويرتكز مبدأ التعاون “على ما يبذله المتحاورون من مجهودات لانجاح التواصل ، ولتحقيق المقصود من الكلام يجب على المقابل أن يفهم ما تحاول أن توصله إليه ، وإلّا لاستحال الأمر .
وقد اشترط النحويون لظاهرة الحذف في الكلام وجود دليل على المحذوف، والمتمثل بقرينة حالية أو مقامية وقال ابن جني أن العرب قد حذفت الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة، وليس شيء من ذلك إلّا عن وجود دليل عليه، وإلّا كان فيه ضربٌ من تكليف علم الغيب في معرفته .
المصادر
ـ الكتاب .
ـ الخصائص ، ابن جني .
ـ جواهر البلاغة ، أحمد الهاشمي .
ـ المعنى وظلال المعنى .
حيدر حمود عبد الأمير
قسم اللغة الغربية