عنوان المقال : القضاء بين المشرق والمغرب الاسلاميين
اعداد: سيمون شبيب كاظم
قسم التاريخ
ان القضاء في العصر العباسي تمتع بجانب مهم من الاستقلالية، ربما تأثراً بالطراز والنظام الساساني؛ كون الدعاة عاشوا مدة زمنية في خراسان وقسم منهم من الاصول الفارسية، واصبحوا من ذوي النفوذ في الدولة العباسية، فيحتمل بدرجة ما أنهم تأثروا بهم. واصبحت الدولة ترتكز على اربع وظائف كبيرة تعمل جنباً الى جنب مع الخليفة وهي: (القاضي وصاحب البريد وصاحب الشرط وصاحب الخراج) فكل منهم يمسك طرفاً، فيما لو تركه او اهمله انهارت الدولة.
في البداية احتكر العباسيون حق تعيين القضاة؛ وربما الامر يعود الى سببين اولهما أن الخلافة لازالت ضعيفة وتحتاج الى مَنْ يقف معها ويوائم توجهها المذهبي فهي لم تعين
قاضياً شيعياً مثلاً، بل اقرت قضاة على المذهب الحنفي، والثاني هو الرغبة في وصول اشخاص اكفاء، يكونوا عوناً للسلطة في مشروعها لبناء دولة بمعايير تختلف عن معايير الامويين، وبعيدة عن نفسهم القومي.
ومرّ القضاء بمرحلتين مهمتين في العصر العباسي، كان في العصر الاول (132-247هـ) القضاء ذا هيبة كبيرة؛ نظرة لقوة السلطة العباسية وحجم نفوذها الكبير، ودليل على ذلك أن قاضي قضاة المأمون يحيى بن اكثم اصبح قائداً عسكرياً انفذه الى الصائفة الى بلاد الروم(1)؛ مما يعني هيمنة الدولة على المنصب، اما العصر الثاني كان(247-656هـ) وهو من عصر التسلط التركي حتى سقوط بغداد على المغول، اذ انمازت هذه المرحلة عن غيرها بضعف القضاء؛ لضعف الدولة العباسية ووقوعها تحت هيمنة الاجنبي.
اما الدولة الفاطمية- اذا ما حسبت على المشرق الاسلامي- فقد انماز فيها القضاء بالتدخل الحكومي الواضح، فبعد دخول مصر من قبل جوهر الصقلي، عيّن القاضي النعمان المغربي-منظّر الدولة الاسماعيلية الفاطمية- الى جانب قاضي الدولة العباسية ابا طاهر محمد بن احمد الذهلي الحنفي المذهب والمُعيّن من قبل الخليفة الراضي بالله العباسي، متخذةً من جوامع مصر الشهيرة مثل جامع عمرو بن العاص وجامع الازهر -فيما بعد- مركزاً لبث افكارهم واصدار الاحكام القضائية، وفوّض اليه الحكم بجميع المملكة والخطابة والامامة بالمساجد الجامعة والنظر والإشراف على غيرها من المساجد المصرية، كما تولى رسمياً الاشراف على دور ضرب العملة ودار العِيار وامر الجوامع والمساجد وقراءة المجالس الخاصة بالقصر، واصبح بمنصب قاضي القضاة وداعي الدعاة
سنة 393هـ، بمعنى أن القضاء قد امتزج بالدعوة الاسماعيلية ليكون القاضي متعدد الوظائف، وبقى اسرياً لآل النعمان حتى نهاية القرن الرابع الهجري تقريباً.
ودخل القضاء المصري زمن الفاطميين انعطافاً تاريخياً اذ اعتبر نائباً للوزير واتضح ذلك بنص نقله المؤرخون عن بدر الجمالي الذي اطلق عليه: (كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين)، بمعنى أن المنصب اخذ طابعاً سياسياً اكثر من ذي قبل، لكن المشكلة في الامر أن القضاة يجبرون على الافتاء والحكم للناس بموجب الفقه الاسماعيلي، حتى وإن اختلف الفقيه مذهبياً مع الدولة الفاطمية، وهذا كبت للحريات والمعتقدات المذهبية، وشكل نقطة ضعف في جسد الدولة الفاطمية التي لم تستوعب الاخر في كثير من مفاصل الدولة، وفي مدد مختلفة من تاريخها. ويعني ذلك أن القضاء لم يكن سالماً من التسيس، وكان يدور في كثير من الاحيان في فلك السياسة.
اما في المغرب الاسلامي والاندلس فقد كان القضاء- على قصر مدة خضوع هاتين المنطقين للدولة الاموية في المشرق- لا يختلف عن ما موجود في اقاليم الدولة الشرقية، فقد كان الخليفة الاموي يعين القاضي بأمر مباشر منه على كرسي القضاء في افريقية والاندلس ليقوم الاخيران بدورهما بإرسال قضاة عنهم الى باقي انحاء الدولة. وغالباً ما كان يُكلّف والي افريقية متابعة شؤون القضاء في الاندلس(3)؛ كونه الاقرب جغرافياً ومحل ثقة الدولة. ولم تختلف تلك المجالس القضائية فيهما عن تلك المقامة في المشرق الاسلامي. وفي عصر الامارة الاموية الذي تشكل بعد سقوط دولتهم في المشرق الاسلامي وبناء كيان دولة اخرى على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الملقب بأبن الخلائف والداخل وصقر قريش، فقد اصطبغ القضاء بفكر الاوزاعي القدري، فمال اليه الامير وبثه الزاماً على الناس(1)؛ ليستند اليه في بناء شرعيته امام الناس، بمعنى ادق أن منصب القضاة قد اشتري بالولاء السياسي للأمير الاموي، فقد عين قضاة منهم مثل زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي الملقب شبطون، فأنتشر على اثر ذلك المذهب الاوزاعي في الاندلس حتى اخذ به الحكم بن هشام الربضي عندما وصل السلطة لنفس الغرض السياسي. وخالص القول هنا أن السياسة والمذاهب ادت دوراً مهماً في وصل فرقة ما الى منصب القضاء وتحكم بما شاء الامير وهنا امكننا القول بأن القضاء كان منصباً مهيمن عليه من قبل الحاكم. ودليل ذلك انهم اي القضاة الاوزاعيين قد حصلوا على دعم الحكم الربضي لأجل تشكيل هيئة مستشارين له؛ لمساندته في قيادة دفة الدولة، والحقيقة هي لبناء شرعيته حكمه عن طريق اقناع عوام الناس بأن حكم بني امية قدر محتوم.
واسوق دليلاً آخر يدعم القول بـأن القضاء الاندلسي في عهد الامارة- على الاقل- كان مسيساً هو أن يحيى بن يحيى، وطالوت بن عبد الجبار، وعيسى بن دينار، ويحيى بن جعفر، وهم قضاة حاولوا التأثير على الحكم الربضي، ولما لم يستجب لمطالبهم، حرّكوا الشارع ضده.
ولما احترقت ورقة الاوزاعيين القدرية بحدود نهاية القرن الثاني الهجري، انتشر مذهب الامام مالك بن انس(ت179هـ) الاكثر اعتدالاً من المذهب الاوزاعي، فاعتنقه عبد الرحمن الناصر الاموي، وعين قضاة منهم في محاكمه؛ لسببين على الاقل، اولهما لتدعيم حكمه، فقد اصبحت الدولة الاموية راعية لعناصر غير عربية الاصل، والنظام القضائي الاوزاعي لا يواكب ذلك التطور، واصبحت الحاجة لمذهب متسامح يواكب هذا التطور، فكانت المالكية هي الاصلح بالنسبة لهم، وثانيهما شعور الناصر الاموي بالخطر الفاطمي، فأتكئ على المذهب المالكي للوقوف بوجه المد الاسماعيلي خصوصاً مع الهجمات المتبادلة واحتمالية التأثير الشيعي هناك. وهنا ادت السياسة دوراً حاسماً في وصول القضاة المالكية الى المناصب، ومن الجدير بالذكر ان الفقهاء حددوا شورطاً لمن يتسنم هذا المنصب فمنها: 1- أن يكون رجلاً بالغاً 2- مجمع على اختياره 3- الحرية اي انه ليس عبداً مملوكاً4-الاسلام5-العدالة 6- سلامة البصر والسمع7-أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية. وهي شروط متفق عليها بين المشرق والمغرب، باستثناء الاندلسيين يضعون فقرة تاسعة وهي: الترفع عن صغائر الامور ومعناه النزاهة والمروءة والاّ يكون القاضي محدوداً بجرم سابقاً، .اما مجلسه فيضم : 1- الحُماة والاعوان لإيقاف من يحاول الفرار.2- القضاة والحكام 3-الفقهاء ليرجع لهم فيما اشكل4-الكُتّاب ليسجلوا له ما جرى بين الخصوم5- الشهود؛ لإثبات ما عرفوا من الخصوم.
اما في الاندلس فهناك فرق فيما عُرِف بالمزّكي: ووظيفته التزكية او الطعن في عدالة الشهود، فربما يكون الشاهد مرتشِ. والمترجم ؛ كون مجلس القاضي الاندلسي يضم اجانب اسلموا من اسبان او برتغاليين.
المصادر :
(1) حسن، النظم الاسلامية، ص289.
(2) آدم متز، الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، 1/469؛ الصالح ، النظم الاسلامية، ص308.
(3) البراقي، تاريخ الكوفة، ص255.
(4) سيد ، الدولة الفاطمية في مصر ، ص361.