مقال من إعداد
م.م. أمير علي هادي
التخصص / علم الاجتماع
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية/ قسم العلوم التربوية والنفسية
القيم الاجتماعية في عصر الانترنت
في عصر الإنترنت، يشهد المجتمع تحولات كبيرة في القيم الاجتماعية نتيجة الانفتاح الذي توفره هذه الوسائل الرقمية، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. من خلال السوسيولوجيا، يمكننا تحليل تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على تشكيل وتغيير هذه القيم، وكيف تساهم هذه التحولات في إعادة تعريف السلوكيات والتفاعلات داخل المجتمعات.
تعريف القيم الاجتماعية في السياق السوسيولوجي
القيم الاجتماعية هي مجموعة من المبادئ والمعتقدات التي تنظم سلوك الأفراد داخل مجتمع معين. هذه القيم تعكس ما يعتبره الأفراد مهمًا في حياتهم، وتعمل كمعايير توجيهية لأفعالهم. في المجتمعات التقليدية، كانت القيم تتعلق في الأساس بالعائلة، الدين، الأخلاق، والمكانة الاجتماعية. على الرغم من أن هذه القيم لا تزال حاضرة إلى حد ما في المجتمعات الحديثة، فإن الإنترنت قد أحدث تغييرات جذرية في طريقة تعريف الأفراد لمفاهيم مثل الهوية، العلاقات الاجتماعية، وخصوصية الحياة الشخصية.
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي: محفزات لتغيير القيم الاجتماعية
من خلال الإنترنت، أتيحت للأفراد منصات واسعة للتفاعل مع الآخرين، مما أدى إلى نشوء قيم اجتماعية جديدة تواكب العصر الرقمي. بعض أبرز هذه التغيرات تشمل:
أ. القيم الفردية مقابل القيم الجماعية
الإنترنت يعزز بشكل كبير من القيم الفردية، حيث أتاح للأفراد مساحة كبيرة للتعبير عن أنفسهم وبناء هوياتهم الخاصة. في المجتمعات التقليدية، كان يُنظر إلى العلاقات الاجتماعية على أنها شبكة من التعاون والاحترام المتبادل. ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأ التركيز يتجه نحو تعزيز “العلامة الشخصية”، حيث يسعى الفرد إلى بناء صورة خاصة به عبر الإنترنت ويشارك تفاصيل حياته الشخصية مع الآخرين.
الفرص والمخاطر: من جانب، يمكن لهذا التوجه أن يساهم في تحقيق الذات، والإبداع، والتعبير الشخصي. ولكن من جانب آخر، قد يؤدي إلى تزايد الأنانية الفردية على حساب القيم الجماعية مثل التعاون والعمل الجماعي. يمكن أن تؤدي هذه الظاهرة إلى مجتمعات معزولة أو متفرقة.
ب. الخصوصية والانفتاح
من أبرز القضايا التي يطرحها الإنترنت في العصر الرقمي هي مفاهيم الخصوصية. في الماضي، كانت الحياة الشخصية للأفراد محاطة بالكثير من الحواجز التي تحميها من الانكشاف. لكن الإنترنت سمح بتقليص هذه الحواجز، مما دفع الأفراد إلى التفاعل والمشاركة بشكل أكبر في الفضاء العام.
التحديات الاجتماعية: فقدان الخصوصية أصبح إحدى القضايا الكبرى في المجتمعات الرقمية. هذه الفجوة بين الحفاظ على الخصوصية والتفاعل المفتوح تثير تساؤلات حول حدود الأمان الشخصي، حيث يبدأ الأفراد في مشاركة تفاصيل حياتهم التي لم تكن في متناول الجميع في السابق.
الانتقال من الخصوصية إلى العلانية: وسائل التواصل الاجتماعي تساهم بشكل كبير في تحول الحدود بين الحياة الخاصة والعامة، ما يخلق تغيرًا جذريًا في مفهوم الخجل والاحترام.
ج. القيم الديمقراطية والتفاعل الاجتماعي
في المقابل، قدم الإنترنت بُعدًا جديدًا في تعزيز القيم الديمقراطية مثل حرية التعبير والمساواة. أصبح بإمكان الأفراد التعبير عن آرائهم بحرية، والمشاركة في النقاشات السياسية والاجتماعية عبر الإنترنت، بعيدًا عن القيود التي كانت تفرضها الأنظمة السياسية أو العادات المجتمعية في المجتمعات التقليدية.
التحديات والتهديدات: ولكن هذا الفضاء المفتوح له تبعات سلبية أيضًا، مثل انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة. بعض الحركات التي تهدف إلى نشر الأكاذيب أو نظريات المؤامرة تجد أرضًا خصبة لها على الإنترنت، مما يثير التساؤلات حول كيفية موازنة حرية التعبير مع المسؤولية الاجتماعية.
الانعزال الاجتماعي و”العزلة الرقمية”
على الرغم من أن الإنترنت يعزز من التواصل الاجتماعي بين الأفراد في أنحاء مختلفة من العالم، إلا أنه في بعض الأحيان قد يؤدي إلى زيادة العزلة الاجتماعية. يتفاعل الأفراد مع أصدقائهم وأسرهم عبر الإنترنت، مما يقلل من التفاعلات الاجتماعية الواقعية.
العزلة الرقمية: يشير مصطلح “العزلة الرقمية” إلى الحالة التي يكون فيها الأفراد عالقين في العالم الافتراضي على حساب العلاقات الاجتماعية الحقيقية. هذه العزلة قد تكون لها تأثيرات نفسية سلبية مثل القلق الاجتماعي والاكتئاب، خصوصًا بين المراهقين الذين يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي في تفاعلاتهم.
الانعزال المادي مقابل التواصل الرقمي: الفرد قد يكون أكثر اتصالًا رقميًا، ولكنه في الواقع أقل ارتباطًا اجتماعيًا حقيقيًا، ما يؤدي إلى ضعف الروابط العاطفية التي كانت تشكل جزءًا أساسيًا من التفاعلات الاجتماعية في المجتمعات التقليدية.
الثقافة الاستهلاكية
أدى الإنترنت إلى انتشار ثقافة استهلاكية، حيث أصبحت الإعلانات الرقمية جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. منصات التواصل الاجتماعي تعمل على ترويج أسلوب حياة معين يرتبط بشكل كبير بالاستهلاك.
التأثير على القيم الاجتماعية: من خلال هذه الإعلانات، يتم تعزيز القيم المادية التي تركز على الرغبة في امتلاك المنتجات والخدمات، مما يساهم في تقليص القيم الإنسانية مثل التعاون، التضامن، والانتماء. قد يجد الأفراد أنفسهم محاصرين في دوامة من السعي وراء المال والمكانة الاجتماعية.
إعادة النظر في المعايير: هذه الثقافة الاستهلاكية تتطلب مراجعة وتفكير نقدي في القيم المادية السائدة، مع التأكيد على قيم أخرى مثل الاستدامة، العناية بالصحة العقلية، وتعزيز الروح الجماعية.
الإنترنت كأداة لتغيير القيم الاجتماعية نحو الأفضل
رغم التحديات المرتبطة بالتحولات الرقمية، يمكن اعتبار الإنترنت أداة قوية لتحفيز التغيير الاجتماعي الإيجابي. العديد من الحركات الاجتماعية الحديثة قد استفادت من الإنترنت في نشر القيم المتعلقة بحقوق الإنسان، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.
التوعية والعدالة الاجتماعية: الإنترنت أصبح منصة عالمية لرفع الوعي حول قضايا حقوق الإنسان والمساواة، مثل مكافحة العنصرية ودعم حقوق المرأة، مما يساهم في نشر القيم الإنسانية على نطاق واسع.
التعليم والتثقيف: من خلال الإنترنت، يمكن نشر المعرفة والتعليم حول قضايا اجتماعية متنوعة، مما يؤدي إلى تغييرات في الوعي الاجتماعي وإعادة تشكيل القيم المتعلقة بالعدالة، المساواة، والتسامح.
تأثير الإنترنت على بناء قيم اجتماعية جديدة
من منظور سوسيولوجي، يمكن القول إن الإنترنت قد ساهم في ظهور قيم اجتماعية جديدة تعكس التغيرات الرقمية والعولمة. الإنترنت ليس مجرد أداة تقنية بل هو بيئة اجتماعية ديناميكية تساهم في إعادة تشكيل العلاقات الإنسانية. إذ أصبح الأفراد قادرين على التفاعل مع ثقافات وقيم متنوعة، مما يقلص الفجوات بين المجتمعات ويعزز التنوع الثقافي.
تحديات وتوجهات مستقبلية : الإنترنت ساهم في تقوية قيم مثل الحرية الشخصية وحرية التعبير، ولكن ظهرت أيضًا بعض التحديات الجديدة، مثل انتشار المعلومات المغلوطة. وفي هذا السياق، يكمن التحدي في كيفية الحفاظ على التوازن بين الاستفادة من إيجابيات الإنترنت وبين المحافظة على القيم الاجتماعية الأساسية مثل التعاون والاحترام المتبادل.
بالمجمل، الإنترنت أثر بشكل عميق على بناء القيم الاجتماعية الجديدة، مما يساهم في ظهور مجتمعات أكثر انفتاحًا ومرونة. هذه القيم الحديثة ترتبط بالتحولات الرقمية التي نشهدها، وتؤثر بشكل كبير على الأفراد وطريقة تفاعلهم مع بعضهم البعض ومع مجتمعاتهم.
المصادر
.جابر عبد الحميد, و سليمان الخضري. )1978 .)دراسات نفسية في الشخصية العربية . القاهرة: عالم الكتب. 7
.رضا أمين. )2015 .)إلعالم الجديد )المجلد الاول(. القاهرة: دار الفجر- للنشر والتوزيع
.رضوان بلخيري. )2014 .)مدخل الى إلعالم الجديد المفاهيم والوسائل والتطبيقات )المجلد الاول(. دار جسور
.سميرة عشور. )ديسمبر, 2023 .)المجتمعات األافتراضية وتأثيرها على القيم الاجتماعية لدى األاطفال_ الفيس بوك نموذجا_ دارسة ميدانية بسطيف_. مجلة الرؤى للدارسات المعرفية والحضارية
.صليحة العقون, و حفيظة خليفي. )سبتمبر, 2023 .)مواقع التواصل االاجتماعي وتأثيرها على القيم االجتماعية لألبناء من جهة نظر عينة ألامهات بمدينة الغواط. مجلة العلوم الاجتماعية
.عبد الحكيم حجازي , و وائل الهياجنة. )2016 .)تربية الاطفال في السالم )المجلد الولى(. الردن: دار المعتز للنشر والتوزيع